
كتب د. محمد وهاب عبود: في خضم مشهد إعلامي يتسارع فيه النبض الرقمي، وتتشابك فيه الخيوط الافتراضية مع نسيج حياتنا اليومية، يبرز ما يطلق عليهم بـ “المؤثرين” على مواقع التواصل الاجتماعي كقوة لا يستهان بها، فهم ليسوا مجرد أصوات عابرة في الفضاء الإلكتروني، بل أصبحوا أشبه بمهندسي واقعنا، ورسامي صورته التي نراها ونعيشها، لكن، هل هذا الواقع الذي يشكلونه هو انعكاس حقيقي لعالمنا، أم أنه مجرد سراب يخفي بين ثناياه حقيقة مغايرة؟
في الساحة الرقمية الشاسعة، يتبوأ المؤثرون/ صانعو المحتوى منابر افتراضية، يطلون منها على جمهور متزايد، يقتات على صورهم المنمقة، وكلماتهم المنتقاة بعناية، وحياتهم التي تبدو مثالية في كل تفاصيلها، ولكن، هل هذه الصورة البراقة هي الحقيقة؟ أم أنها مجرد قناع يخفي وراءه واقعاً أكثر تعقيداً، وأقل مثالية؟
إن الدور السلبي لهؤلاء يتجلى في قدرتهم الفائقة على تشويه الحقائق، وخلق واقع مزيف يتناغم مع مصالحهم الخاصة، أو مع داعميهم، فهم يروجون لنمط حياة استهلاكي سطحي، يقيم مكانة الإنسان بما يمتلكه من أشياء مادية، لا بما يحمله من قيم إنسانية نبيلة، يجعلون من الكمال هدفاً زائفاً، ومن السعادة سلعة قابلة للشراء، وينشرون ثقافة المقارنة، مما يؤدي إلى تفاقم الشعور بالنقص وعدم الرضا لدى الكثيرين.
في هذا العالم المصطنع والمشوه، تختفي الأصوات الحقيقية، وتتلاشى القيم الأصيلة، ليحل محلها ضجيج فارغ، وصور سطحية، وعلاقات زائفة إذ يصبح الواقع مجرد عرض مسرحي، والمشاهير على المنصات الاجتماعية هم الممثلون، والجمهور هو المتفرج الذي يصفق لهذا العرض، دون أن يدرك أنه يبتعد يوماً بعد يوم عن جوهر الحقيقة.
مع ذلك، ومن نظرة متوازنة، لا يمكن أن نعمم الحكم، ففي هذا المشهد القاتم، تظهر بعض النماذج المضيئة، فبعض المؤثرين يستخدمون منصاتهم لنشر الوعي، وتقديم محتوى هادف، وإلهام الآخرين بشكل إيجابي.
هم قلة، نعم، ولكنهم موجودون، يشكلون بصيص أمل في هذا الظلام الرقمي، يذكروننا بأن مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون أداة للتغيير الإيجابي، إذا ما استخدمت بوعي ومسؤولية.
إذن أمام وعورة هذا المسار، كيف يمكن التعامل مع هذا الواقع المزيف الذي يخلقه المؤثرون؟ وتحصين العقول من هذا التشويه المستمر للحقائق؟ الإجابة تكمن في الوعي النقدي، وفي القدرة على التمييز بين الحقيقي والمزيف، وفي البحث عن الأصالة والعمق في عالم سطحي، مع الأخذ بالحسبان أن الواقع الحقيقي أعمق وأغنى بكثير من تلك الصور البراقة المعروضة على الشاشات، وأن السعادة الحقيقية لا تقتصر على امتلاك الأشياء، بل في بناء علاقات إنسانية حقيقية، وفي البحث عن المعنى والقيمة في الحياة.