كتب د. كمال ميرزا…ها هو وزير الخارجية الأميركي “انتوني بلينكن” يبدأ جولته الخامسة في المنطقة منذ انطلاق “طوفان الأقصى”، وما تلاه من حرب إبادة وتهجير ممنهجة يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة.
ما هو الجديد الذي يحمله “بلينكن” للمنطقة هذه المرّة؟ الجواب كما في المرّات السابقة: لا شيء!
لو رجعنا وتأمّلنا جولات “بلينكن” السابقة لوجدناها تتبع نمطا واحدا:
لغط وجدل وصخب يسبق زيارة “بلينكن” حول الملفات الرئيسية مثل الهدنة، ووقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، والوضع الإنساني والمساعدات الإنسانية، وترتيبات ما بعد الحرب..
ويتواصل اللغط والجدل والصخب أثناء الزيارة وسط تضارب الأنباء والتصريحات..
ثم تنتهي الزيارة كما ابتدأت، دون أن يتغيّر شيء على أرض الواقع، وعبر إعلان أميركي واضح وصريح وفجّ مفاده أنّ التوقيت غير مناسب لوقف إطلاق النار في غزّة، وأنّ أي وقف لإطلاق النار في هذا التوقيت سيصب في مصلحة حماس/ المقاومة!
زيارات “بلينكن” المتكررة، وبعيدا عن الجعجعة الكلامية والبهورة الإعلامية التي تصاحبها، تنحصر فقط في بعدين اثنين:
ـ أولا: كجزء من الحرب الدعائية والنفسية، من خلال إلهاء الناس والإعلام، وتشتيت انتباههم وتركيزهم، ورفع سقف توقعاتهم، ثم تخييب آمالهم، ثم معاودة الكرّة مرّة أخرى من أجل استنزافهم عاطفيا وعقليا ليسقطوا مع الوقت في اليأس أو القنوط أو الملل أو اللامبالاة.
ـ ثانيا: شراء المزيد من الوقت بدماء أهالي غزّة من أجل تنفيذ المخطط المبيّت الذي اتضحت معالمه وغاياته منذ اليوم الأول، ولم تتغيّر هذه الغايات حتى هذه اللحظة، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
– تدمير قطاع غزّة تمهيدا لإعادة إحتلاله والسيطرة عليه.
– استنزاف المقاومة، حتى لو تمّ هذا بالزحف البطيء وبسرعة السلحفاة.
– استنزاف الحاضنة الشعبية للمقاومة، ومحاولة إحداث وقيعة بينهما من خلال تحميل المقاومة مسؤولية ووزر كلّ أصناف الموت والعذاب والمعاناة التي يكابدها الأهالي.
– استنزاف الداخل “الإسرائيلي” نفسه، وتوطينه على فكرة أنّ الأسرى قد لا يعودون سريعا، وقد لا يعودون أبدا، وأنّ هناك ضريبة بشرية واقتصادية لا بدّ من دفعها من أجل تحقيق النصر وضمان أمن إسرائيل.
– فرض التهجير كأمر واقع بعد سلب قطاع غزّة كل مقوّمات الحياة.
– إخضاع من بقي من أهل غزّة، إن بقي منهم أحد، إلى سلطة “تنسيق أمني” مرتبطة مباشرة بالكيان وأجهزته، وبالتعاون مع الأجهزة “الشقيقة” و”الصديقة”.
– إستكمال ملف التطبيع، والشروع بتنفيذ مشاريع “السلام الاقتصادي” الموعود الجاهزة والمتفق عليها سلفا وتنتظر إشارة البدء، ومنها ما بدأ تنفيذه بالفعل.
– استكمال مخططات “الترانسفير”، وتوطين الشعب الفلسطيني، وإجهاض حق العودة، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا.
لو تأملنا مسار الأحداث منذ (7) أكتوبر ولغاية الآن لوجدناه لا يخرج عن إطار المسار أعلاه، برغم اللغط والجدل والصخب، أتى “بلينكن” أو غير “بلينكن” إلى المنطقة أم لم يأتوا.
وما يقال بين الفينة والأخرى عن رفض التهجير، أو رفض احتلال قطاع غزّة أو تغيير مساحته، أو عن ضرورة زيادة المساعدات الإنسانية، أو حلّ الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية.. كلّ هذا يأتي من قبيل “ذرّ الرماد في العيون” و”إبر التخدير” التي يكذّبها واقع الحال والمجريات والسلوك الفعلي على الأرض.
الفرق النوعي الوحيد الذي يمكن تلمّسه مع مرور الوقت، هو زيادة “جرأة” بعض الدول العربية والإسلامية، و”وقاحة” بعضها الآخر، في التعبير صراحة عن موقفها المعادي للمقاومة، وتواطؤها مع العدو، وتعاونها معه، وتماهيها الكامل مع مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وتماهيها على المدى الأبعد مع مخططات تصفية بقية الحواضن والحواضر العربية التي ما تزال تمثّل تهديدا لمشروع الهيمنة الغربية والتفوّق الصهيوني/ الأعرابي/ القَبَلي في المنطقة (مصر والجزائر بشكل خاص).
أتى “بلينكن” أم لم يأتِ فإنّ الوضع بالنسبة للمقاومة وأهالي غزّة ما يزال كما كان حتى إشعار آخر: العدو من أمامكم، والعدو من خلفكم، وليس لكم سوى الله وذراعكم والميدان وصِدْقَ من صَدَقَ في محور الممانعة!