أقيمت صلاة الجمعة العبادية، بمسجد جنات النعيم، مركز محافظة كربلاء المقدسة، بإمامة الشيخ عمار العارضي.
وذكر مراسل “النعيم نيوز”، أن “الشيخ العارضي، تحدث في الخطبة الأولى عن موضوع: (الاستضاءة في سيرة أهل البيت عليهم السلام)، أما الخطبة الثانية فتحدث عن موضوع (المصلحون لا تزعجهم الاتهامات)”.
ولكم تفصيل الخطاب:
الاستضاءة بسيرة أهل البيت (ع)
(ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور)
حين تسير ليلاً في طريق متشعب المسارات، مليء بالحفر والنتوءات، فأنت بحاجة ماسة للاستضاءة بنور القمر، من أجل أن تحدد مسار طريقك، وتحمي نفسك من الوقوع في الحفر، والتعثر بالعراقيل.
ولو جذب نظرك سحرُ القمر، وروعة جماله، خاصة حين يكون بدراً، فاتجهت نحوه ببصرك، وحدّقت فيه سارحاً بخيالك، فإنك ستجد متعة نفسية كبيرة، لكن ذلك قد يشغلك عن النظر إلى الطريق، فتهوي في المنزلقات، وتصطدم بالعراقيل، وتتعرض للتيه والضياع.
الانشداد العاطفي لا يكفي
كذلك هي سيرة أهل البيت، إنها كالقمر الساطع المنير، الذي نحتاج ضوءه لإنارة دروب الحياة، لكن بعضنا قد ينشغل فكريًّا وعاطفيًّا بجمال وروعة تلك السيرة الطاهرة، فيستغرق في الانبهار والإعجاب بشخصيات أئمة الهدى، وينشدّ إليهم بأحاسيسه ومشاعره، لكنه يغفل عن ترسم طريقهم في الحياة، ويفوته الأخذ بهديهم لمواجهة التحديات، وتجاوز العقبات.
ولا شك أن سيرة أهل البيت بروعتها وصفائها فيها ما يغري بالانبهار والعشق، لكن ذلك لا يصح أن يكون عوضاً وبدلاً عن الاهتداء والاقتداء، بل يجب أن يكون العشق لجمالهم المقدس دافعاً للاقتباس من هديهم، والاستضاءة بنورهم.
ونجد فيما روي عن أهل البيت تأكيداً على أن العلاقة بهم يجب أن تتأسس على قاعدة الاتباع لهم والاقتداء بهم، لا مجرد الانشداد العاطفي إليهم.
قال رجل للإمام الحسن ع : إني من شيعتكم.
فقال : (يا عبد الله إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم)[1] .
وعن الباقر ع: (لا تذهب بكم المذاهب فو الله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز و جل)[2] .
وعن الصادق ع : (ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا)[3] .
وعن العسكري ع : (شيعة علي هم الذين يقتدون بعلي)[4] .
إن النظر إلى أهل البيت (ع) كلوحات فنية جميلة معلقة على جدار الزمن، نتأمل روعتها وحسنها، ونظهر الإشادة والإعجاب بها، أو كقطع أثرية نادرة تعرض في متاحف التاريخ، نقوّمها بأغلى الأثمان، دون أن يكون لها انعكاس أو تأثير على مسار حياتنا، إنما يعني ذلك التنكر والتجاهل لأهم وظيفة ودور أراده الله تعالى لهذه العترة الطاهرة، وهو دور الإمامة والهداية في حياة البشر.
إن أهل البيت جديرون بكل مدح وإطراء، وأهل لكل فضيلة ومكرمة، بل ما عسى أن يقال فيهم بعد ثناء الله تعالى عليهم في كتابه المجيد، وعلى لسان نبيه الصادق الأمين .
الاقتداء هو المطلوب
إن ما يسـرّ أهل البيت ع ، هو معرفة نهجهم واتباع هديهم، لا مجرد الاستغراق في مدحهم وذكر فضائلهم.
كما أن الانتصار لظلامة أهل البيت ع ومعاناتهم من الحاسدين لهم والجائرين عليهم، لا يكون بمجرد سكب العبرات وجرّ الحسرات، وإنما بالعمل على تحقيق أهدافهم العظيمة في إعلاء كلمة الله تعالى، ونشـر العدل، وإقامة الحق.
وحدة الهدف وتنوع الأدوار
فأهل البيت (ع) لم يكونوا ذوات تبحث عن مواقع ومناصب، ولا جماعة تتطلع لمصالح خاصة، بل كانوا حملة رسالة عظيمة، وأصحاب قيم سامية، كرسوا وجودهم وحياتهم من أجل خدمة الرسالة ونشر القيم.
وقد تنوعت الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية التي عاصروها طيلة قرنين ونصف من الزمن، مما فرض تنوع الأدوار والمواقف في سيرتهم، مع وحدة الاتجاه والهدف.
إن المصلحة العامة للدين والأمة هي الهدف الأساس الثابت لأئمة أهل البيت (ع)، أما منهجية العمل والموقف فهي متحركة حسب مقتضيات الواقع الاجتماعي.
ذلك أن الثبات ضمن منهجية دور وموقف محدد، لا يستجيب لتغيرات الواقع، أمر مخالف لمنطق العقل، وسيرة الأنبياء، كما يضـر بالرسالة، ويفوّت فرص خدمتها.
من هنا كان تنوع المواقف والأدوار في سيرة أئمة أهل البيت (ع)، على الصعيد السياسي والاجتماعي. حيث نجد منهم من قام بأعباء الحكم، ومن صالح متنازلاً عن الحكم، ومن ثار في وجه السلطة، ومن هادن ووادع السلطة، ومن قبل منصب ولاية العهد، ومن تحمّل عناء السجون والإقامة الجبرية..
ونجد من تصدى للحركة العلمية، ومن ركز على التربية الإيمانية الأخلاقية، ومن اهتم بحاجات الفقراء والمساكين، بمعنى أن تكون هذه الصفة أو تلك هي الأبرز في سيرته وعهده.
لذا فإن علينا أن نقرأ سيرة أهل البيت بموضوعية وشمول، حتى لا نقع في أسر الأُحادية والفهم المبتور.
الاجتهاد في فهم الواقع
وإذا كان تنوع الأدوار والمواقف في سيرة أهل البيت حقيقة تاريخية لا جدال فيها، فإن إسقاط هذا الدور أو ذاك الموقف على واقع اجتماعي سياسي معاصر، يكون مورداً قابلاً للاختلاف وتفاوت وجهات النظر، من حيث تشخيص الواقع الخارجي، وتحديد الموقف الأصلح في التعامل معه.
وحين يختلف التشخيص للواقع، فقد يترتب عليه الاختلاف في الموقف المختار، وبإمكان كل طرف أن يجد في سيرة أهل البيت وفي مجمل التراث الديني، ما يستدل به على صحة موقفه ومشـروعيته، لكنه لا يستطيع إدانة موقف الطرف الآخر، ما دام يتفق معه في المبادئ والقيم، ويختلف معه في التشخيص والتقويم.
فالخلاف ليس على مشـروعية الثورة والمعارضة، ولا على مشـروعية المصالحة والمهادنة، فكلاهما له أصل في الدين، وممارسة في سيرة أهل البيت، إنما الخلاف وتفاوت الاجتهاد في تشخيص وتقويم الواقع الخارجي، واستلزامه لهذا الموقف أو ذاك.
مواقف الأئمة والمعارضون
وقد واجه أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم بعض الاعتراضات على مواقفهم السياسية من قبل معاصرين لهم، فكانوا يجيبون المعترضين، بتبيين رأيهم في تشخيص الواقع الذي اقتضى منهم ذلك الموقف.
كما أجاب الإمام الحسن (ع) المعترضين على صلحه لمعاوية، وأجاب الإمام الحسين ع الناصحين له بعدم الخروج إلى العراق ومواجهة الحكم الأموي، وأجاب الإمام الصادق الداعين له للانضمام إلى حركة الثورات على السلطة.
ففي تلك الإجابات لم يكن النقاش في مبدأ الجهاد ورفض الظلم، ولا في ضرورة مراعاة المصلحة العامة، وإنما الكلام حول مقتضيات الظرف والواقع.
وكمثال واضح ننقل ما رواه الكليني في الكافي ج 5 صفحة 19 عن عبدالملك بن عمر قال: «قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق) : إن الزيدية يقولون: ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد. فقال : أنا لا أراه؟ بلى والله إني لأراه ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم».
هكذا يحدد الإمام أنه لا يختلف معهم في مبدأ الجهاد، لكنه يعلم من مقتضى الواقع ما يجهلون.
المصلحون لاتزعجهم الاتهامات
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال في بعض خطبه: «أيُّهَا النّاسُ، اِعلَموا أنَّهُ لَيسَ بِعاقِلٍ مَنِ انزَعَجَ مِن قَولِ الزّورِ فيهِ، ولا بِحَكيمٍ مَن رَضِيَ بِثَناءِ الجاهِلِ عَلَيهِ، الناس أبناء ما يُحسنون، وقدر كل امرئ ما يحسن»[1].
إنّ من طبيعة النفس البشرية أن تتأثر بكلام الناس عنها سلبًا أو إيجابًا. فهي ترتاح عند تلقي عبارات الثناء والإطراء، وتتأذّى عند سماع الإساءة والهجاء، ومردّ ذلك إلى أنّ مصالح الإنسان مرتبطة على نحوٍ كبير بمحيطه الاجتماعي، فإذا كانت سمعته حسنة، فهذا ما يخدم مصالحه، وعلى النقيض من ذلك إذا كانت سمعته سيئة، فسيعرقل ذلك مسيرته ومصالحه، وعلاقاته الاجتماعية، لذلك يهتمّ الإنسان بما يقوله الناس عنه. ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان كتلة من الأحاسيس والمشاعر، وبطبيعة الحال تنتعش أحاسيسه ومشاعره في حالة التشجيع والثناء من المحيطين به، في مقابل ذلك تتأذّى مشاعره إذا واجه إساءات من المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
فمن الطبيعي إذًا أنْ ينزعج المرء ويتألم نفسيًّا نتيجة تلقي التهم والدعايات المغرضة، لقاء موقف صادق من قضية من القضايا، غير أنه لا ينبغي أن يقوده ذلك إلى التنصل والانصراف عن قضاياه المحقّة.
الأنبياء يتأثرون ويتألمون
ليس هناك أحدٌ مستثنى من الانزعاج والتألم عند تلقّي التهم والإساءات، بما في ذلك الأنبياء والأئمة والأولياء. فهؤلاء العظماء تتأثر نفوسهم إلى حدٍّ بالكلام عنهم وعليهم، حتى وإن كانوا معصومين لكنهم يبقون بشرًا، لهم أحاسيس ومشاعر كسائر البشر. فالأنبياء يتأذّون إذا ما واجهوا الإساءة، وإذا ما واجهوا الكلام الحسن فإنّهم يرتاحون إليه، هذا مقتضى النفس البشرية. وإن لم تكن لهم مصالح ذاتية يخشون عليها من كلام الناس، فإنّ لهم مصالح رسالية متعلقة بتبليغ رسالاتهم للبشرية، وقد يتحول كلام الناس ضدهم عائقًا وحاجزًا أمام التفاعل مع رسالاتهم.
وقد سرد القرآن الكريم وقائع من حياة الأنبياء، أظهر فيها الأثر الذي تركته التّهم والدعايات المغرضة الموجهة لهم ضمن محيطهم الاجتماعي. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾، وتشير الآية بوضوح إلى الأذى الذي نال موسى، نتيجة اختلاق قومه بني إسرائيل التّهم والإشاعات عليه، ويقول المفسرون إنّ الآية تحكي عن وفاة نبي الله هارون أخي موسى وهما في طريقهما إلى الجبل، فأشاع بنو إسرائيل بأنّ موسى هو المتسبّب في موت أخيه حتى يخلو له الجو، فبرأه تعالى من تلك التهمة وأظهر الحقيقة لقومه.
وذكر مفسّرون آخرون مناسبة أخرى للآية، وهي عندما عمد قارون، ﴿كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾، إلى الاتفاق مع بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، على توجيه الاتّهام إلى نبي الله موسى بأنه مارس الزنى معها، لذلك كان الاتّهام مؤذيًا له، لكن الله برأه وأظهر الحقيقة أمام الناس. ومع إدراك موسى التام لبراءته من التهمة، ومع كونه نبيًّا من أنبياء أولي العزم، إلّا أنه تأذّى من الكلام الذي نال منه، بغير وجه حقّ.
كما تناول القرآن الكريم مقدار الأذى الذي طال رسول الله جرّاء سوق الاتّهامات ضدّه. قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾، وبذلك نخلص إلى أنّ الأنبياء والأئمة والأولياء ليسو بمنأى عن الأذى النفسي الذي ينتابهم جرّاء التهم الموجهة لهم بغير حقّ.
الاستقامة الرسالية رغم الأذى
لكن الفارق الجوهري أنّ تأثّرهم وألمهم النفسي لا يدفعهم نحو التنصّل من مسؤولياتهم الرسالية. وهذا تحديدًا ما يمكن استنتاجه من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حين قال في بعض خطبه: «أيّها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزّور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه، الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كلّ امرئ ما يُحسن»، إنّ من الواقعي جدًّا أن يتألم العاقل ويتأذّى من تلقي الإساءة من الآخرين، ولكن من غير الصحيح أن يدفعه هذا الألم والأذى إلى الانصراف عن الحقّ، والتخلي عن أفكاره التي يؤمن بها، لمجرد أنّ الناس قد تكلموا ضده. ينبغي ألّا يتخلّى الإنسان عن مسؤولياته وواجباته، عندما يواجه نقدًا أو تناله جملة من الاتّهامات والافتراءات، وألّا يفقد الثقة في نفسه، وبما هو مقتنع به، ذلك أنه ربما شكّك الإنسان في نفسه وأفكاره والنهج الذي يسير عليه، نتيجة لكثرة الكلام والاتّهامات التي تنال منه؛ لأنه ينبغي للإنسان أن يُخضع نفسه، ويحاكم أفكاره، على أساس المعايير الصحيحة، وليس تبعًا لأقوال الناس، أو مجاراة لمستوى رضاهم عنه، فالناس ليسو مقياسًا للحقّ.
ومعنى الانزعاج في كلمة الإمام «ليس بعاقل من انزعج» هو الاضطراب، وهو نقيض الاستقرار. فالعاقل وإن كان يتأذّى من القيل والقال في حقّه، إلّا أنّه لا ينبغي أن يقع في حالة الاضطراب، على نحوٍ يغير مواقفه، ويتنازل عن مبادئه، ويفقد الثقة في نفسه، فحينئذٍ لا يكون عاقلًا؛ لأنه حكّم كلام الناس وتنازل عن حكم عقله. ويمضي في القول أنّ «الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كل امرئ ما يُحسن»، وكأنّ الإمام يريد أن يقول، إنّ الكفاءة الذاتية هي المعيار الذي يحتكم إليه، لا كلام الناس، فلو أنّ الناس تكلموا عن شخص بسوء، وهو على خلاف ما يزعمون، وكان على قدر كبير من الكفاء، فحينئذٍ لا بُدّ وأن يركن المرء إلى كفاءته الذاتية رغمًا عن أقوال الناس.
والحال نفسها إذا ألقى الناس على مسامع أحدهم، ألوان الإطراء وأشكال المديح، فلن يزيده ذلك مثقال ذرة في كفاءته. ومما ورد في وصايا الإمام الكاظم لهشام بن الحكم أنه قال: «لَو كانَ في يَدِكَ جَوزَةٌ وقالَ النّاسُ: في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ، ما كانَ يَنفَعُكَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها جَوزَةٌ؟، ولَو كانَ في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ وقالَ النّاسُ: إنَّها جَوزَةٌ، ما ضَرَّكَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها لُؤلُؤَةٌ؟»[2] ، فالمعيار ليس كلام الناس، وإنّما المعيار أن يثق المرء بذاته، ويحافظ على رباطة جأشه، ويستخدم المعايير الصحيحة في اختيار فكرته، وتشكيل رأيه، وبلورة موقفه، عندها فليطوِ كشحًا عن كلام الناس. ولا يضطرب، ولا ينتابه القلق، ولا يتنازل عن موقفه، ويتخلّى عن مسؤولياته، وإن كان من حقّه أن يتألم وأن يتأثر نفسيًّا من الأباطيل التي تروج ضدّه.
ولعلّ أشدّ ما يصيب المرء من الأذى حين تدبّج الأكاذيب ضدّه تدبيجًا يلتبس على الآخرين، فلا يميزون الحقّ من الباطل فيها. وهذا ما أشار له أمير المؤمنين في قوله: «ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه»، والزور لغة هو الكذب المنمّق، الذي ينطلي على الناس فيحسبونه صدقًا، فليس كلّ الكذب زورًا، فهناك الكذب المكشوف، أما الكلام الزور فهو الكذب المحبوك حبكًا، على نحوٍ ينطلي على أغلب الناس. ومنه جاء التزوير، فتزوير الوثائق والعملات النقدية على سبيل المثال، غالبًا ما يأتي على نحو المطابقة للوثيقة أو العملة الأصلية، ولا يمكن أن ينكشف التزوير إلّا مع شدة التأمل والتدقيق.
وكذلك الحال مع الآراء والمواقف والأفكار، التي من الطبيعي أن يظهر من يخطئها ويعارضها بشدة، وهذا مما لا مشاحة فيه، غير أنّ ما يجري أحيانًا هو الاختلاق واصطناع التهم من نسج الخيال، وهذا هو الزور بعينه، وهو من أسوأ ما يواجهه الإنسان.
لذلك عَدّ الله تعالى قول الزور من أقبح الأعمال، وقرنه بعبادة الأصنام، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، فلا يجوز تحت أيِّ مبرر تلفيق التّهم وقذف الآخرين بها جُزافًا، فوزر ذلك وزر عبادة الأصنام. وقد أخرج البخاري ومسلم عن عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا، «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ـ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ ـ» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»[3] ، وبذلك يجعل التصنيف النبوي قول الزور على درجة أعلى وأشدّ فداحة من الشرك والقتل والعقوق.
لا تشترك في ترويج الاتّهامات
إنّ الله تعالى لم يَنْهَ المؤمنين عن قول الزور وحسب، وإنّما نهاهم، علاوة على ذلك، عن شهادة الزّور ضدّ الآخرين. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، وفي معنى ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾ ذهب مفسّرون إلى تفسير ذلك بالنأي عن قول شهادة الزور، في حين ذهب مفسّرون آخرون، إلى تفسير ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾ بالنأي عن الحضور في محضر يقال فيه كلام الزور، وهذا الرأي يتناسب مع سياق الآية الكريمة ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، فالشهود هو الحضور والاستماع للزور، مقابل المرور مرور الكرام على مجالس الزور. فالإنسان المؤمن ليس فقط من ينأى بنفسه عن قول الزور، وكيل التّهم، وسوق الكلام على عواهنه بحقّ الناس، وإنّما عليه فوق ذلك ألّا يحضر مجالس الزور التي يدور فيها مثل ذلك الكلام القبيح.
ومن مصاديق النأي عن شهادة الزور في عصرنا الراهن نأي الإنسان بنفسه عن ترويج الأباطيل بحقّ الآخرين. سيّما ونحن نعيش عصرًا تنوعت فيه فرص التعبير عن الرأي، وبات المجال مفتوحًا لأيٍّ كان، لقول ما شاء فيمن شاء، حقًّا أم باطلًا، فامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بجبال من التُّرَّهات على عباد الله، طعنًا في هذا الطرف، ونيلًا من تلك الجهة. لذلك يغدو من مصاديق قوله تعالى: ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾، ألّا يشارك الإنسان في ترويج الأباطيل على عباد الله، من خلال النشر، وإعادة النشر، لتلك الأباطيل، والافتراءات، والتّهم المختلقة، عبر الصفحات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو إعادة النشر عبر برامج المحادثة الجماعية في أجهزة الهواتف الذكية، فالوقوع في هذا مصداق واضح لمخالفة قوله تعالى: ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾. ينبغي للإنسان أن يتّقيَ الله وينأى عن قول الزور وشهادة الزور؛ لأنه مسؤول أمام الله تعالى.
كما أنّ ذلك ليس صيانة لشخص زيد أو كرامة لعمرو، بقدر ما يُراد من ذلك الحفاظ على صفاء ونقاء الأجواء الاجتماعية، فالمجتمع الذي تعجّ أجواؤه بالاتّهامات المتبادلة، تكون جلّ اهتمامات أفراده منحرفة، فلا يعود مجتمعًا صالحًا، ناهيك عن أنه ربما دخلت أطراف مشبوهة تغذّي هذه الممارسات، وتساهم في صبّ الزيت على النار؛ لأنّ من مصلحة هذه الأطراف أن ينشغل المجتمع في تبادل السُّباب والشتائم، وتشويه السمعة بين هذا الطرف وذاك. ومن الواضح جدًّا أن غرض الكثير مما تنشره بعض الحسابات والمعرّفات الإلكترونية هو إشغال الناس ببعضهم بعضًا، وأن يفقدوا الثقة في بعضهم بعضًا، وأن يحطّموا رموزهم المحلية بأيديهم، وعلى الإنسان الواعي ألّا يكون شريكًا في خطط الأعداء، ولعبة تحركه أياديهم من حيث لا يعلم”.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
ولمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
ولا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز