كتب ياسين العطواني: وقد يتساءل البعض عن السر وراء تقدم هذه البلدان، وما حققته من ثورة تنموية شاملة، لاشك أن هناك جملة من العوامل التي ساهمت في ذلك، فقد انتهجت مجموعة النمور الآسيوية، السياسات والوسائل العلمية والعملية لتحقيق ذلك، وخلق إدارة فعالة لبرامج التنمية المستدامة، تستجيب إلى المتغيرات والظروف الآنية والمستقبلية، يقف في مقدمتها التعليم، كمدخل أساسي لعملية التنمية.
إذ لا يمكن أن يحدث تقدم بدون إنسان واع متعلم، فأساس نجاح التنمية الاقتصادية الآسيوية، هو وجود العنصر البشري المحلي الكُفوء، الذي يقوم بعملية التخطيط والتنفيذ لتلك السياسات، وتطبيقها على أرض الواقع.
من بين أهم المؤشرات التي تدل على تطور ورقي الشعوب والأمم في السياسات التنموية، هي تبنيها لمفهوم التخطيط الاستراتيجي، كنموذج عملي متطور لاستشراق المستقبل، على اعتبار أن هذا الأمر من أبرز متطلبات تحقيق التنمية المستدامة.
وعادةً ما يتم ذلك من خلال تحديد الأولويات، وتخصيص الموارد اللازمة بما يؤدي إلى تحقيق الأهداف المحددة على المدى البعيد، وبهذا فإن التخطيط الاستراتيجي، هو مسعى تنظيمي تُحدد فيه بدقة الأهداف والغايات، وخلال إطار زمني محدد، في ضوء الإمكانيات المتاحة أو التي يمكن الحصول عليها في المستقبل.
وهناك مجموعة من العناصر التي يجب توفرها لتحقيق مهام ومتطلبات التخطيط الاستراتيجي، يقف في مقدمة ذلك وجود رؤية واضحة لتحديد شكل النجاح، ورسالة محددة تعبر عن الغرض والهدف المنشود، وكذلك مجموعة من القيم والأهداف الرئيسة والفرعية، إضافة إلى الخطط التنفيذية المدروسة، والتي يمكن تحقيقها والعمل على إنجاحها من خلال التقييم والمتابعة.
وبهذا يمكن اعتبار هذه المفاهيم التنموية بمثابة خارطة طريق لأي دولة أو حكومة تحاول تَلمس طريق ما بات يعرف اليوم بالتنمية المستدامة، وهذا المفهوم من المفاهيم المُستحدثة نسبياً في المعالجات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
وتهدف التنمية المستدامة إلى وضع الخطط الكفيلة بتحسين الظروف المعاشية لجميع الناس، والقضاء على الفقر، وكذلك تجنب إخفاقات المرحلة السابقة، من خلال التشجيع على اتباع أنماط وأساليب جديدة ومبتكرة.
ونعتقد أن العراق كبلد ليس استثناءً من هذه التوصيفات والمفاهيم التنموية، بل هو في أمس الحاجة لتبنيها، خصوصاً أن الحديث يدور هذه الأيام عن المشاريع ذات البعد الاستراتيجي، كمشروع طريق التنمية على سبيل المثال، وما قد يرافق هذا المشروع الحيوي من مشاريع ثانوية.
ولهذا فإن الحاجة تدعو إلى اتباع أفضل السبل لتحقيق المصالح الاستراتيجية العليا، التي تتوقف عليها التنمية الشاملة والمستدامة للبلاد، ومنها الاطلاع على تجارب الآخرين، لاسيما البلدان التي مرت بظروف مماثلة، واستطاعت خلال فترات معقولة تجاوز الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي مرت بها، ومن ثم بلوغ مرحلة التنمية المستدامة، وبإمكانيات ذاتية.
وعلى الرغم من امتلاك العراق لإمكانيات بشرية ومادية هائلة وموروث حضاري كبير، وهو من الغنى بحيث لا يمكن إنكاره أو تجاهله، إلا أن هذا الموروث وتلك الإمكانيات بحاجة إلى إنضاج ومواكبة للتطورات، التي شهدها ويشهدها العالم من حولنا، على اعتبار أن هذه البلاد قد شهدت انقطاعاً تاماً عن العالم الخارجي قبل عملية التغيير، وما لحق ذلك من تداعيات بعد التغيير، الأمر الذي ولد فجوة تنموية كبيرة بيننا وبين هذا العالم المتحول، وهذا الحال يتطلب منا العمل بجدية ونكران ذات لردم هذه الفجوة التنموية.
ونعتقد أن أقصر الطرق للوصول إلى ذلك يكمن في الانفتاح على العالم والإطلاع على تجارب الشعوب الناجحة، من أجل تكييفها والاستفادة منها، لا سيما في المجالات التنموية.
وبالإمكان التعرف على تجارب عالمية تشير إلى أن هناك بلداناً وشعوباً مرت بحروب وأزمات طارئة، إلا أنها تمكنت من عبور تلك الأزمات والوصول نحو شاطئ الأمان وبأوقات قياسية، بعد اعتمادها النهج السليم في معالجة وإدارة الأزمات، ووضع الخطط الاستراتيجية الشاملة للنهوض مجدداً، وبين أيدينا العديد من التجارب الناجحة، التي يمكن أن يُشار لها بالبنان.
وهنا نود التأكيد إلى أننا لا ندعو إلى استنساخ تجارب تلك الدول حرفياً، على اعتبار أن لكل دولة ميزات وطبائع وظروفاً تختلف عن الدولة الأخرى، ولكن بالمقابل هناك مشتركات سياسية واقتصادية وتنموية يمكن الاستفادة منها.
وأمامنا أقرب تجربة تاريخية وجغرافية يمكن الاستفادة منها، ونعني بها تجربة جنوب شرق آسيا أو ما يعرف بالنمور الآسيوية، فالمعروف أن هذه البلدان كانت تعاني من الفقر المدقع، ومن ندرة الثروات والموارد الطبيعية، ومن مشكلات عرقية واجتماعية، وكذلك دخلت في حروب أهلية وخارجية، فقد استطاعت تلك البلدان وخلال فترة قصيرة أن تحقق نمواً هائلاً وتطوراً كبيراً، نال إعجاب وثناء العالم أجمع، وباتت تجربة النمور الآسيوية مثالاً يُحتذى به في مجال التطور الاقتصادي والتنمية المستدامة.
وقد يتساءل البعض عن السر وراء تقدم هذه البلدان، وما حققته من ثورة تنموية شاملة، لاشك أن هناك جملة من العوامل التي ساهمت في ذلك، فقد انتهجت مجموعة النمور الآسيوية السياسات والوسائل العلمية والعملية لتحقيق ذلك، وخلق إدارة فعالة لبرامج التنمية المستدامة، تستجيب إلى المتغيرات والظروف الآنية والمستقبلية، يقف في مقدمتها التعليم، كمدخل أساسي لعملية التنمية، إذ لا يمكن أن يحدث تقدم بدون إنسان واع متعلم، فأساس نجاح التنمية الاقتصادية الآسيوية هو وجود العنصر البشري المحلي الكُفوء، الذي يقوم بعملية التخطيط والتنفيذ لتلك السياسات وتطبيقها على أرض الواقع.
فقد وضعت هذه الدول استراتيجية للتعليم قامت على ثلاثة أسس وهي، محو أمية الكبار، والتركيز على التعليم التقني والفني، وزيادة الموازنة المخصصة للتعليم.
ولهذا ليس من المستغرب أن تكون وزارة التعليم في تلك البلدان أهم من الوزارات السيادية، كوزارة الدفاع والداخلية والخارجية، من حيث التخصيصات المالية وما يُنفق من الموازنة العامة للبلاد على التعليم، بدءاً من التعليم الأساسي وحتى التعليم الجامعي.
كما كان لهذه البلدان رؤية صارمة في مكافحة الفساد من خلال التشريعات والقوانين، ولم تنجح في مشاريعها الاقتصادية التنموية إلا بعد أن بدأت أولاً بمحاربة الفساد، وبذلك تحولت دول النمور الآسيوية خلال العقود الماضية من بلدان تعيش على المساعدات إلى بلدان مانحة لها، بفضل اعتمادها على السياسات التنموية الشاملة، من خلال العمل الجاد والمثابر على توفر الأسباب والموجبات لهذه التنمية وإنجاحها.
والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه بقوة، أين نحن اليوم من هذه التجارب الناجحة، وما مدى الاستفادة من تلك التجارب؟، بالتأكيد لا تزال المسافة التي تفصلنا عن تلك التجارب بعيدة نسبياً، بسبب جملة من المعرقلات البينية التي رافقت العملية السياسية، يقف في مقدمتها فشل السياسات الاقتصادية المتعاقبة، ولكن مع وجود هذه الخيبات والمعرقلات ما زال الأمل معقوداً على الطاقات الكامنة التي يمتلكها هذا البلد، وهي كثيرة ومتعددة، فالعراق يمتلك طاقات بشرية خلاقة، وثروات معدنية هائلة، وموارد اقتصادية متكاملة، وكل ما يحتاجه هو رسم ملامح جديدة للبلاد، تبدأ بتغيير وإصلاح الواقع السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، وإلى إعادة ترتيب الأولويات، بما ينسجم مع التحولات التاريخية التي يشهدها العالم من حولنا.
وهنالك بوادر إيجابية لملامح تنموية ملموسة بدأت تظهر على الطريق، نتمنى أن تردم هذه الهوة التي تفصلنا عن التنمية الشاملة والمستدامة، ويمكن عدّ التعداد العام للسكان الذي جرى مؤخراً خطوة مهمة على طريق التنمية المستدامة، وعاملاً مساعداً في رسم ووضع الخطط التنموية الآنية والمستقبلية.