
كتب إبراهيم العبادي: منذ العشرين من كانون الثاني، والعالم يشهد هزات شبه يومية مع كل قرار تنفيذي يصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومع كل تغريدة أو تصريح، أو حديث سياسي علني إلى الصحافة في قاعة الاستقبال الكبرى في البيت الأبيض.
في أقل من تسعين يوماً، وقع الزلزال الذي تكهّن به الخبراء بعد الهزّات التمهيدية، ولما يكد ساكن البيت الأبيض يُكمل المئة يوم الأولى من عهده الجديد، حتى قيل إن العالم صار وجهاً لوجه أمام زلزال مدمّر شديد التدمير، وقد بدأت ارتداداته تضرب المساحة العالمية من شرقها إلى غربها، وهذا الوصف لا يخرج عن إطار الحقيقة، فها هو العالم بأسره، بمن فيهم حلفاء أمريكا وأصدقاؤها ومنافسوها وأعداؤها، لا يدرون كيف سيكون عليه المشهد العالمي بعد شهر من الآن، أو بعد عام في أحسن التوقّعات.
لقد ضرب ترامب بنية الاقتصاد العالمي ضربةً ولّدت صدمة سريعة، تبعتها صدمات متتالية حافلة بالقلق والتوتّر والريبة، فليست الخسائر المادية وحدها هي مظاهر الزلزال الترامبي، بل الأخطر هو خسارة اليقين، وانعدام إمكانية التنبّؤ، والخشية من المضاعفات والارتدادات السياسية والأمنية، فضلاً عن المالية والاقتصادية، وكل ذلك بات جزءاً من أولويات الحكومات المتأثّرة مباشرة أو غير مباشرة بزلزال ترامب.
وبالعودة إلى منطق المقارنات ومنهج الحوليات، فإن ما فَصَلَ بين الزلزال العالمي الكبير عام 1929، عام الكساد الكبير، وبين عام 2025، عام الخسائر الأكبر بسبب رسوم ترامب الجمركية وما تبعها من ارتدادات ضربت أسواق المال والبورصات والشركات الصناعية والتكنولوجية، هو أقل من قرن واحد.
وخلال هذه الأعوام الستة والتسعين، شهد العالم تحوّلات متعدّدة في بنيته الاقتصادية، وعلاقاته التجارية، وتحالفاته السياسية، كما شهد حروباً كبرى ومتوسطة وصغيرة، أسهمت جميعها في إعادة رسم مشهد العلاقات الدولية، وجسّدت اختلالاً فادحاً في التوازنات.
كل هذا يُنذر بأن عالم ما بعد رسوم ترامب وضرائبه، لن يكون على النمط الذي ألفناه وعايشناه، بل نحن أمام عالم انكسرت فيه آخر القلاع والجدران الأخلاقية والإنسانية، وعاد يتلمّس مواضع قدميه بحذرٍ شديد، خشية الانزلاق نحو فوضى سياسية وأمنية تُحرّكها أزمات الركود الاقتصادي، والتضخّم، وانهيار معدّلات النمو، وانكشاف الاقتصادات على ديونٍ وعجوزات ضخمة في الموازنات، مع إحجام أسواق المال الكبرى عن مد يد العون.
يساريّو العالم، الذين ما زالوا أوفياء لموقفهم المناهض للرأسمالية المتوحّشة، بتعبير الراحل سمير أمين، يشعرون بشيء من الارتياح رغم الحزن والغضب اللذين يسودان أرجاء الأرض، فهم يرون أن موقفهم المناهض للرأسمالية كان له ما يبرّره، وهذا ما تحقّق مرّة أخرى في عام 2025، فها هم رأسماليو العالم الكبار يتصارعون على التعرفة الجمركية، ويستعيضون عن الحرب المسلّحة بحروب التجارة، والتي ستكون من نتائجها القريبة والبعيدة مزيداً من الإفقار لبلدان العالم النامي، ومزيداً من الفقر والبطالة والديون، وعجز الحكومات عن تمويل التعليم والصحة والضمان الاجتماعي.
قد لا يبدو المشهد المحزن واضح المعالم بعد، بسبب التعقيد والتقلبات اليومية، لكن ما يمكن الإشارة إليه هو توابع الزلزال الاقتصادي، تماماً كما هي توابع الزلازل الطبيعية، فإذا كان الكساد العظيم الذي ضرب العالم سنة 1929 قد أنتج انعطافة حادّة نحو الفكر القومي المتطرّف، كما تجسّد في النازية والفاشية والمكارثية، فمن غير المستبعَد أن يتلقّى اليمين القومي المتطرّف دعماً كبيراً من الشرائح الاجتماعية المتضرّرة من سياسات الانفتاح الاقتصادي، والهجرة المفتوحة، والديمقراطية المرنة.
هذه السياسات، التي انتقدها ترامب ومساعده جي. دي. فانس، وأعلنا صراحة دعمهما لليمين العالمي سواء في أوروبا أو خارجها، ستُسهم في مزيد من التوتّر والانغلاق والتعصّب القومي، وصعود الأحزاب القومية ذات التوجّه الانعزالي، وهي أحزاب مستعدّة للذهاب إلى سياسات حافة الهاوية، تحت ضغط الدفاع عن الهوية القومية والمصالح الوطنية والمجال الحيوي.
شرق أوسطياً، سيكون الزلزال مؤثّراً للغاية، بسبب البيئة الهشّة، والمؤسسات الضعيفة، والقابلية الكبيرة للانجرار إلى السياسات الانفعالية، فبين طوفان الأقصى الذي اقتلع أعمدة المشهد السياسي المستقر منذ أربعين عاماً، وزلزال ترامب الأكبر، تشير التوقّعات إلى احتمال سقوط قلاع رقعة الشطرنج المهترئة في المنطقة، أو تدارك الخطر بالتكيّف السريع مع العاصفة، والانحناء أمام ضرباتها القاتلة.
الشرق الأوسط عانى من مشروع نتنياهو التغييري الخطير، وهو يتعرّض اليوم لارتدادات مشروع ترامب، الذي يسعى إلى “تحرير” أمريكا من التزاماتها السابقة، التي بشّرت بها وألزمت نفسها بها، والمتمثّلة في قيادة العالم بالقوّة الاقتصادية والعسكرية، لكن هذه المرة من دون أدوات ناعمة، ولا أخلاقيات، ولا شعارات سياسية.
ترامب، الذي يريد تجديد شباب أمريكا وحيويّتها الاقتصادية، يدرك أن ثمن ذلك سيكون اضطراب العالم، واهتزازه، وذهاب آخر يقينياته ومتبنياته الأخلاقية، وسيكون عالمنا أكثر توحّشاً، وسنشهد نمطاً جديداً من “إدارة التوحّش”، ليس على طريقة القاعدة وبناتها، بل على الطريقة الأمريكية هذه المرة.