الشيخ الربيعي يتحدث عن ظاهرة التكفير وأسبابها وطرق علاجها
أقيمت صلاة الجمعة العبادية في كربلاء، بإمامة فضيلة الشيخ جعفر الربيعي (حفظه الله) بجامع جنات النعيم، فيما تطرق إلى ظاهرة التكفير وأسبابها وطرق علاجها .
وقال مراسل “النعيم نيوز”، أن الشيخ الربيعي “استهل خطبته بقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) ال عمران. من أخطر الظواهر التي شهدتها الساحة الانسانية لا سيما الساحة الدينية هي ظاهرة التكفير، وإلغاء الطرف الاخر. والتي معناها الحكم على الاخر بالموت والقتل ومصادرة أمواله وسبي نسائه وغيرها من الاثار التي يرتبها من يقوم بتكفير الاخر”.
وأضاف “إنَّ ظاهرة التكفير المنفَلِت ساهمت إلى حدٍ بعيدٍ في إضعاف عُرى الوحدة بين المسلمين، والتي كانت السبب في تمزيق المجتمعات الإسلاميَّة وإحلال التنازع فيها بدل التَّعاون، والفُرقة بدل الوحدة. ولذا، كان من الأهميَّة بمكانٍ الوقوف عند هذه الظاهرة لاستجلاء أسبابها والعوامل التي ساهمت في نشأتها، باعتبار أنَّه لا يُمكن تقديم أي رؤية لعلاج هذه الظاهرة، إذا لم تكن لدينا المعرفة الكاملة والصحيحة بتلك الأسباب؛ لأنَّ أي عمليَّة علاج للظاهرة لن تكون مُجديَة، إذا لم تركّز جهودها على الأسباب التي أدّت إليها، فعلاج الظاهرة جذريَّاً يكمُنُ في علاج أسبابها التي انتجتها، وأيُّ علاجٍ لأعراضه رغم أهميَّته لن يستأصلها من أساسها وجذورها. ومن هنا كانت ضرورة التركيز على الأسباب التي أدّت إلى استيلاد ظاهرة التكفير المنفَلِت.
وبين أن “السمات العامة للفكر المتشدد:
اولاَ: ان منطق التكفير والعنف الديني منطق واحد، وان هذا الفكر حلقات متواصلة يبني اللاحق أفكاره على تجارب السابق، وربما يزيد عليهم فهو فكر متراكم ومتطور ذاتياً.
ثانياً: لهذا الفكر قابلية توظيف المقولات الدينية المتعارفة لأغراضه بنزعها من سياقتها، وله القابلية على إضافة مقولات عقدية وفقهية جديدة تحت مقولة (فقه الضرورة والعقائد الغائبة).
ثالثاً: إذا احتاج هذا الفكر ان يغاير المجمع عليه من اهل السلف، فهو مستعد ان يغايره ويبني اراء جديدة ينفرد بها.
رابعاً: تعد القراءة الحرفية والجمود على النص الديني والابتعاد عن العقل والبرهانية وممارسة العنف الديني سمات عامة ومشتركة لهذا الفكر”.
ولفت إلى أن “البنى المنهجية للفكر التكفيري:
1-اختزالهم كل التراث الإسلامي بعدد من التفاسير، فمن بين 800 تفسير يعتمدون خمسة تفاسير، اما مع متون الحديث وكتب الفقه، غدا مرجعهم ابن تيمية دون ان تذكر بقية المدونات.
2-القراءة الحرفية النصوصية للنص الديني: لم يراع الفكر الاصولي التكفيري ظروف التنزيل، ويقتطع غالباً النص من سياقه ويحوله الى قيم مطلقة، الى جانب اعتبارهم عصر الصحابة عصراً معيارياً.
3-الموقف المزدوج من التأويل: فهم يرفضونه جملة ولكنهم يلجاؤن اليه عند الحاجة، من جهة يرفضون التأويل لأمثال (يد الله فوق أيديهم) حتى وقعوا بمشكلة التجسيم، ويلجاؤن اليه حينما تعوزوهم النصوص الصريحة المؤيدة لأفكارهم.
4-التماسهم من النصوص القرآنية ادلة على أفكارهم، لي النص الديني ليوافق أفكارهم.
5-ان الفكر التكفيري لا يستنطق النص الديني ليتعرف على معطياته بل يصار اليه كبرهان على مدعياتهم”.
وأوضح الشيخ الربيعي أن “أسباب ظاهرة التكفير:
أـ وجود تراثٍ تكفيري كبيرٍ موضوع تكوَّن على مدى عقودٍ بل قرونٍ من الزمان، يعود الى أسباب عديدة أهمُّها ما يرتبط بالجانب السياسيّ، وتأثّر الجانب الدِّيني ببعض الظروف والعوامل السياسيَّة، ممَّا أدَّى إلى تشكّل كمٍ من ذلك التُّراث الذي يُكفِّر العديد بل الكثير من المسلمين، بمعنى أنَّه يُخرِجَهم من الإسلام، ليُبيحَ لنفسه القيام بمختلف أعمال القتل والإجرام بحقِّهم. وهذا ما قادَ إلى إيجاد تصدَّعات قويَّة في جسد الأمَّة الإسلاميَّة والمجتمعات الإسلاميَّة، مع ما أفرخه ذلك التُّراث من حقدٍ وعصبيَّات ومفرداتٍ ثقافيَّة لا تألو جهداً في النخر في وحدة الأمَّة الإسلاميَّة ومِنعَتها وقوَّتها”.
وأردف إنَّ “تقديم ذلك التُّراث التكفيريّ والإعلاء من شأنه، كان على حساب كتاب الله وسنَّة رسوله، ممَّا أدَّى إلى إنزال القرآن الكريم عن منزلته التي أنزله الله تعالى فيها، بكونه المصدر الأساسيّ والأوَّل الذي يَجب أن نعود إليه لفهم معالم الدِّين وشريعة ربِّ العالمين، وهو ما أدَّى أيضاً إلى إخراج السنَّة من الرُتبَة التي جعلها الله تعالى فيها؛ كلُّ ذلك لحساب ما سطَّره بعضٌ من الرجال، الذين يُمكِن أن يكونوا قد تأثَّروا بهوىً، وضلّوا عن هدىً، وكان لهم فهمهم للدّين والشريعة الذي يَحتَمِل الخطأ؛ حيث أصبح تراث أولئك الرجال وما سطَّروه في مصنَّفاتهم هو المرجع على حساب القرآن الكريم والسنَّة، في حين أنَّ الله تعالى قد أمرنا بالرجوع إلى كتابه وسنَّة نبيِّه، وليس إلى ما قاله فلان وعلان مهما علا شأنه وذاع صيته”.
وتابع “ب -من الأسباب الأساسيَّة ما يرتبط بالمنهج الذي يُعتَمَد في فهم الدِّين، أي في فهم القرآن الكريم والسنَّة، حيث إنَّ البعض يُمارِس أكثر من عمليَّة إسقاط معرفيّ على القرآن الكريم والسنَّة، نتيجةً لتأثّره بتُراثٍ تكفيريّ وثقافةٍ تحتضن فعل العنف والتكفير، وبالتالي هو لا يسعى إلى فهم النصِّ الدّيني كما يُريد ذلك النصّ أن يَنطق به، وإنَّما يسعى لتبرير ما لديه من آراء وقناعات من خلال الرجوع إلى ذلك النصِّ، أي هو لا يُقدِم على النصِّ ليَفهَمَ وليفقَهَ، بل هو يُقدِم عليه ليبرِّرَ ويُسوِّغَ ما فهِمَه مسبَقاً من تراثٍ ومصنِّفٍ لفلان وفلان من الرجال. وفي هذا الحال لا يبقى القرآن والسنَّة الأساس الذي يَعتمد عليه لمحاكمة هذا التُّراث وذاك، بل يُصبحُ الملجَأ الذي يُقصَد لإضفاء الشرعيَّة على أفكارٍ محسومةٍ سلفاً، ويضحى الأساس عندها ذلك التُّراث الذي يتحكَّم في فهم القرآن الكريم والسنَّة، ليُمارِسَ أكثر من تعسّف في فقه النصوص الدينيّة وفهمِهَا”.
وأضاف “كما أنَّ من عيوب ذلك المنهج الذي يَعمل على إعادة إنتاج الفهم التكفيريّ، أنَّه يَفتقِدُ إلى الحسِّ النقديّ للتُّراث، وهو ما أفقده القُدرَة على تلمّس عيوب ذلك التُّراث ومواضع الخلل فيه، ولعلَّ السبب يَكمُن في تعظيمه المفرِط للتاريخ والتُّراث، والذي حرَمَه من ممارسة ذلك النقد، والذي هو المدخل الضروريّ لتجاوز الهيمنة الفكريَّة التي يُمارسها ذلك التُّراث على العقول والثقافة، ممَّا يؤدِّي إلى اجترار فتنة التكفير وثقافتها. إنَّ المطلوب هو تنقية التُّراث وتنظيفه من كلِّ ما علَقَ به من فطريَّات وشوائب، والتي لعبت العوامل السياسيَّة وغير السياسيَّة على إدخالها في ذلك التُّراث الإسلاميّ؛ وإلا فإنّه ما لم يُنقّى سيبقى ذلك التُّراث يجترّ نفسه فِتَناً وتفريقاً وتمزيقاً في جسد الأمَّة الإسلامية وبين جميع أبنائها”.
كما أكمل “من الأسباب الأساسيَّة أيضاً ما يرتبط بالبيئة الثقافيَّة والاجتماعيَّة وغيرها، من تقاليدَ وعاداتٍ وأعرافَ ومفاهيمَ سائدةٍ وظروف سياسيَّة ولربَّما أيضاً مناخيَّة…وما تُنتجه من عوامل ومؤثِّرات تربويَّة، تجعل مجتمعاً ما أقرب إلى تقبّل فكرة العنف وممارسته، وأكثر استعداداً لتلقّف واجترار أيّ ثقافةٍ وفكرةٍ تختزن فعل القسوة وممارسة الإلغاء تِجَاه الآخر، ولربَّما تكون تلك البيئة الثقافيَّة والاجتماعيَّة، وتلك الظروف والأوضاع بطريقةٍ تُعطي نتيجةً مختلفةً”.
ثم ذكر فضيلته بخطبته المباركة “علاج أسبابها، وهو يكمن في ما يلي:
أولاً: يجب أن يُعمَد إلى ذلك التُّراث التكفيريّ بهدف تشريحه وتفكيكه ونقده، ومحاولة تعريته من أي نظرةٍ قداسويَّة تهدف إلى جعله متعالياً على النقد، إذ إنَّ هذا التُّراث تشكَّل في معظمِه متأثِّراً بظروف ومعطيَات غير صحيَّة، سياسيَّة و غير سياسيَّة، وبخلفيَّات ثقافيَّة لا يُمكن الإدِّعاء بكونها خاليةً تماماً من شوائب غير إسلاميَّة، وهو ما أدَّى إلى إنتاج تُّراثٍ مشوَّه في العديد من مفاصله ومعطيَاته، وتُّراثٍ هجينٍ في العديد من أفكاره ومضامينه، والتي منها قضيَّة التكفير لعموم المسلمين والكثير منهم. ولذلك لا يُمكن علاج ظاهرة التكفير المُنفَلِت، ما لم يُعمَد إلى تعطيل ذلك التُّراث التكفيريّ وتفكيك ألغامه، التي ما فتئِت تنفجر بين المسلمين فِتَناً وإجراماً وجرأةً على الله ورسوله وقتلا للنفس التي حرَّم الله تعالى.
ثانياً، العودة إلى كتاب الله وسنَّة رسوله ليكونا المصدر الأساس المُعتَمَد عليهما ويُؤخَذ منهما، وليكونا المعيار والميزان الذي يوزن بهما أيّ إنتاجٍ معرفيّ وأيّ تراثٍ وثقافةٍ. إنَّ هذه العودة تستلزم اختراق كافّة الطبقات الثقافيَّة والمعرفيَّة والاجتماعيَّة، لتكون هذه العودة عودةً كاملةً وأصليةً غير مشوبةٍ بأيَّة شائبةٍ منهجيَّة وثقافيَّة، حتَّى لا نأخذ ببعض النصِّ الديني وندع البعض الآخر، وحتَّى لا نَستخدِمَ ذلك النصّ كغطاءٍ لِمَا نحمِلُ مسبَقاً من أفكار، فالمطلوب هو أن نُقبِلَ على ذلك النصّ (القرآن الكريم والسنَة) مستنطقين سائلين وليس محمِّلين للنصِّ ما لا يَحتمل.
ثالثاً، في المنهج لا بدَّ من التجرّد عن أيّ مؤثِّراتٍ اجتماعيَّة و تراثيَّة.. تحاول أن تُسقِطَ مخزونها على النصِّ لتُمارس تجاهه فعل الهيمنة بما يَحرِفه عن دلالاته التي أراد ومعانيه التي يَقصد. نعم الانطلاق من الواقع (الثقافيّ، الاجتماعيّ والتُّراثيّ…) يُغنِي في إنبات الأسئلة ذات الصِّلَة، ولكن شرط أن يبقى الواقع محكوماً للنصِّ وليبقَى النصُّ هو الحاكم للواقع والأساس في فهمه.
ثمَّ يجب أن يكون فهمنا للنصِّ الديني فهماً شموليَّاً غير تجزيئيّ وموضوعي غير أفرادي، وهذا ما يَستدعي أن نُشبِعَ فكرنا وعقولنا بمعاني النصِّ ومضامينه حتَّى تتشكَّل لدينا قاعدة صلبة ومنيعة من الفهم الدِّيني تؤهِّلَنا لممارسةِ ذلك العمل النقديّ تِجَاه التُّراث والثقافة بهدف تفكيك كافّة الألغام التي زُرِعَت وتُزرع فيهما.
رابعاً، ينبغي القيام بتنميةٍ شاملةٍ اجتماعيَّةٍ وثقافيَّة ومعيشيَّة وعلميَّة تنقل العديد من المجتمعات والأفراد إلى العصر الذي يَعيشون، بما يجعلهم أقدر على فهم واقعهم المُعاش ومتطلَّباتِه وعلاقاتِه وتحوّلاته وجميع إشكاليَّاته، وبما يجعلهم أقدر على فهم الآخر الدّيني والمذهبيّ كما يُعبِّر هذا الآخر عن نفسه لا كما تُصوِّره بعض المصنَّفات التُّراثيَّة، وهذا ما يُسعِفهم أيضاً على فهم الدِّين بشكلٍ أفضل لتقوم علاقة جدليَّة بين فهمٍ أفضل للواقع وفهمٍ أصحَّ للدِّين تجعل أداء تلك المجتمعات والجماعات أقرب إلى مرامي الدّين، لذا لا بدَّ من تنميةٍ شاملةٍ تُساعد على انتشال البعض من ظُلمات التاريخ، وألغام التُّراث ليعيشَ حاضره ومستقبله كما أراد الله تعالى له وكما تهدف إليه حقيقة الدّين ومقاصده”.