مقالات
أخر الأخبار

القبائل والعشائر العراقية.. الدور والتأثير (1)

كتب خالد عليوي العرداوي.. القبيلة والعشيرة جزء مهم وأساسي في تشكيل البنية الاجتماعية للعراقيين، وأي محاولة سياسية أو تشريعية أو اجتماعية تتصدى لبناء الدولة في العراق محكوم عليها بالفشل إذا انطلقت من تصورات تقارن المجتمع العراقي بمجتمعات أخرى فقدت فيها رابطة الدم دورها وتأثيرها لمصلحة رابطة المواطنة، ومن يفعل ذلك يصبح كمن يفكر ويعمل في مجتمع لا علاقة له بالمجتمع العراقي، وتكون اطروحاته غير قابلة للنجاح، لأنها وضعت لبيئة اجتماعية غير بيئتها.

ولعبت القبائل والعشائر دورا مؤثرا في تاريخ العراق الوسيط والحديث، فبعد أن فقدت المدنية العراقية وجودها الحضاري المؤثر بعد اجتياح المغول لبغداد سنة 1258 م أصبحت القبائل والعشائر لسبعة قرون متتالية الملاذ الآمن لأبنائها وغيرهم، فقد حمتهم من مخاطر الغزوات الأجنبية، بفضل ارتحالها وعدم ثباتها في مكان جغرافي محدد، كما وفرت الحماية لهم بوجه الملاحقة القانونية للسلطات المحلية القائمة، وفي المنازعات والصراعات التي تنشب مع افراد من قبائل وعشائر أخرى، فشكلت كرامة الفرد وهيبته امتدادا طبيعيا لكرامة انتمائه القبلي والعشائري.

وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين المنصرم لم تفقد القبيلة والعشيرة دورها، بل تشابك بناء الدولة والمجتمع مع وجود القبائل والعشائر، وما زالت مآثر ثورة العشرين العراقية ضد الانجليز (1920) تروى مرتبطة بمآثر زعامات وافراد القبائل والعشائر المشاركة فيها، واستمر هذا الحال خلال تطورات الاحداث في العهد الملكي والعهود اللاحقة. فكانت القبيلة والعشيرة – ولا زالت- محط اغراء وجذب لجميع قادة الأحزاب والقوى السياسية والدينية، لاعتقادهم بأن كسبها يمهد لهم الطريق نحو الزعامة السياسية والاجتماعية، ولذا لم يدخر هؤلاء جهدا في التأثير عليها بكل السبل الممكنة.

فضلا على ما تقدم، يبرز تأثير القبيلة والعشيرة في أوقات الازمات والاضطرابات السياسية والأمنية عندما تفقد السلطة الحكومية قدرتها على التحكم بالأمور، فكانت ضابطة اجتماعية مهمة لضبط الافراد، وتوفير قدر معقول من الأمن والسلام، بل وقدمت أبنائها -أحيانا- مفتخرة لحماية العراق، لاسيما في أوقات الحروب.

ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما قدمه أبناء القبائل والعشائر من تضحيات جسيمة اثناء التهديد الإرهابي الداعشي للعراق سنة 2014 وما تلاها من احداث مرعبة. ولكن الدور والتأثير الذي تقوم به القبيلة والعشيرة لم يكن دائما إيجابيا، فأحيانا يشكل التعصب الشديد لأفرادها بالضد من القبائل والعشائر الاخرى سببا من أسباب تفتيت وحدة المجتمع واغراقه في نزاعات وصراعات تهدد الأمن والاستقرار، وخاصة في أوقات الاضطراب الأمني والسياسي حيث يضعف القانون وسلطات انفاذه، ويصبح العرف العشائري بديلا عنهما، وما يزيد الطين بلة هو عدم وجود عرف عشائري موحد تجتمع عليه كل قبائل وعشائر العراق من شماله إلى جنوبه.

بل ويتم أحيانا استغلال القبيلة والعشيرة سياسيا لتكون جزء من المناكفات السياسية بين الفرقاء السياسيين، مما يدخلها في مشكلات لا تنسجم مع دورها الاجتماعي، فتفقد بسببها تأثيرها واحترامها. إضافة إلى ما تقدم، زعزعت مؤخرا الخلافات داخل القبيلة والعشيرة حول الزعامة وتعدد الرؤوس المتصدية لذلك، وبروز تأثير السلطة والمال في هذا الموضوع وحدة وقوة وهيبة القبيلة والعشيرة، وزادت من حدة الانقسامات الاجتماعية، لاسيما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعية المتاحة امام الجميع، واستخدامها من قبل البعض بدون ضوابط وبطرق وصيغ سيئة للغاية.

كما ان هذه الوسائل ساهمت مساهمة كبيرة في فقدان مجالس القبيلة والعشيرة دورها التربوي الإصلاحي، فعلى الرغم من وجود الافراد فيها جسديا، ولكنهم متباعدين عن بعضهم في الاهتمام والتواصل، مما جعل اجتماعهم في مجالسهم شكليا للغاية لا يتعدى عبارات الترحيب والمجاملة، فلم تعد اهتمامات هذه المجالس منصبة على أحوال المجتمع العام، واحوال أبناء العشيرة انفسهم، اذ لا يجرى الحديث فيها عن أصول القبيلة والعشيرة، ومآثرهما الماضية، والخصائص والسمات التي تنفردان بها، ولا عن أوضاع المحتاجين من ابنائهما وسبل مساعدتهم واعانتهم على حوادث الدهر، وباستثناء الحديث السياسي العام الذي ينماز به العراقي عن غيره، والمشاكل والصراعات الطارئة بين الافراد، داخل القبيلة والعشيرة وخارجهما، لم تعد هذه المجالس- على الاعم الاغلب- مدارسا للتواصل بين الأجيال، وتهذيبهم على قيم السلوك الإنساني المستقيم، بل على العكس أحيانا تجد الكثير من الزعامات العشائرية المحترمة تشكو من ضعف تأثيرها على أبناء قبيلتهم وعشيرتهم، لاسيما الشباب منهم، وعدم التزامهم بالأعراف العشائرية المعمول بها، ومحاولة كل فرد وضع العرف الذي يراه مناسبا لذوقه ومصلحته…

وامتد التأثير السلبي للقبيلة والعشيرة داخل المدينة العراقية نفسها، وأصبح محل حديث الكثير من المراقبين وسكان المدن، فعلى الرغم من اتساع حجم سكان المدن ليشكلوا أكثر من 70 بالمئة من مجمل سكان العراق، لكن المدينة العراقية اليوم تشكو مما يسميه البعض ظاهرة ترييف المدن، وهذا القول للأسف فيه من النقد والاستهجان أكثر مما فيه من المدح والاطراء، وهو يعني لعب القبيلة والعشيرة دورا غير محمود في منظومة القيم وانماط السلوك داخل المدن، وهو دور لا يتناسب مع ضرورتها الاجتماعية، ولا مع الجانب الأعظم من تاريخها.

وامام هذه التحديات التي تواجه دور وتأثير القبيلة والعشيرة، لا بد من وقفة جادة لمواجهتها وإعادة بوصلة الأمور إلى اتجاهها الصحيح، وبما يحول القبيلة والعشيرة من أداة هدم إلى أداة بناء للدولة والمجتمع في العراق…. يتبع.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى