أخبارمقالات
Trending

بوتين وإستثماره في حَرب غزّة!

كتب مصطفى القرة داغي…..إن تَفَجُّر الصراع في الشرق الأوسط جاء بمثابة طوق نجاة لبوتين، وإلهاء عن حَربه العدوانية على أوكرانيا. فهو حتى الآن أحد أبرز المُستفيدين من هذا الصِراع، وليس بعيداً كما أشرنا سابقاً، أن يكون هو وحلفاءه في قم خلف ما قامت به حماس.

فحالياً، يتمَثّل الهدف الرئيسي لموسكو في تشتيت إنتباه الغرب، الذي يُكرِّس حالياً إهتمامه لإسرائيل بَدَل أوكرانيا، وكلما زاد توَرّط الغرب في حرب غزة، كلما تحَقّق هذا الهَدَف.

ويلعب الإعلام الروسي، الذي وَرث الأساليب الخبيثة لسَلَفه في الإتحاد السوفيتي، دوراً كبيراً في تحقيق ذلك، سَواء عِبر شيطنة الغرب وتحميله مسؤولية تفجّر هذا الصِراع! أو تبنيه لأكاذيب حماس حول الحرب! أو قول بوتين بأحد خطاباته “أن مصير روسيا والعالم، ومستقبل الشعب الفلسطيني، سيَتقرر على جبهة أوكرانيا”! أو تصريح إيغور مولوتوف الذي يعمل في RT “إن إنتصار فلسطين هو إنتصار لموسكو ومينسك”. فرَبط الصِراعين، يضَع روسيا الى جانب حماس، وإسرائيل والغرب في الجانب الآخر. وللأسف إنطَلى هذا الخطاب على كثير من الجهلة. لذا لم يكن مفاجئاً رؤيتنا لصُور بوتين أمام الكاميرات مع أعلام حماس في تظاهرات الضفة الغربية، بدل صوَر عرفات مثلاً. كما لم يكن غريباً كإنعكاس لخطابه الشعبوي المَسموم ما حدث قبل أسابيع في مطار مَحج قلعة في داغستان، التي تضم أقلية يهودية، نتيجة شائعات بمواقع التواصل عَن ضيوف غير مُرَحّب بهم، حيث إستَولت حشود من الرعاع على المطار، بحثاً عن لاجئين إسرائيليين على متن رحلة قادمة من تل أبيب، وهم يُرددون شعارات عنصرية مثل “الموت لليهود”.

في الوقت نفسه، يَعرض بوتين نفسه دعائياً كوسيط، لأنه يريد أيضاً إستخدام الحرب سياسياً لتوسيع نفوذ بلاده في الشرق الأوسط، وتعزيز مكانتها كلاعِب مؤثر في الساحة الدولية. لكنه واقعياً لا يشارك في إيجاد حل سلمي سريع للصراع. لأن إستمراره يخدم أجنداته في المنطقة، وإنهاءه يعرقلها. فأي سَلام بين الطرفين، يعني عدم وجود حجّة له للتدخل في شؤون المنطقة، وصعود أسهم الغرب فيها، لذا هو يسعى لإفشال جهود السلام الغربية عِبر التصعيد الإعلامي. بالتالي زيارته الأخيرة إلى السعودية والإمارات، التي رَوّج أنها للوساطة ليست كذلك. فرغم الجهود التي تبذلها الدولتان لإيقاف الحرب، إلا أن أبرز من يقوم بجهود الوساطة حالياً هما مصر وقطر، لما لهما من علاقات بطرفي الصراع. لذا كان على بوتين أن يتوجه إليهما لو سَعى فعلاً للوساطة! لكن رحلته تتمَحور أولاً حول المصالح الاقتصادية، ثم الحرب في غزة وأوكرانيا.

اللافت في الأمر، لكنه طبعاً مَفهوم الدَوافع، هو الإستقبال الفَخم الذي حَظي به بوتين في أبو ظبي والرياض، رغم مذكرة الإعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضده، ورغم تحالفه الوثيق مع إيران، العدو اللدود للمملكة، والذي كان رسالة أرادت الدولتان إيصالها للغرب، والولايات المتحدة تحديداً. فالدولتان كأغلب دول الشرق الأوسط، لم تنخرطان في العقوبات الغربية ضد روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، ولا حتى إسرائيل الحليف الأقرب للولايات المتحدة، أو تركيا العضو في الناتو الذي يصطف بكامل ثقله خلف أوكرانيا. هناك طبعاً أسباب لذلك! فمنذ البداية، كان هناك تحفظ من قِبَل المملكة ودول عربية أخرى من الانحياز بشكل واضح ضد روسيا، لأنها شريك مُهم لأغلب هذه الدول نتيجة للعلاقات قديمة تربط أنظمتها السابقة والحالية بالمعسكر الإشتراكي. بالإضافة الى إتهام الغرب بالإزدواجية لأنهم يرونه منحازاً لأوكرانيا أكثر من الفلسطينيين، الذين يعانون منذ عقود، دون إيجاد حل عادل لقضيتهم، أو إنهاء معاناة بعض شعوب المنطقة، كما في سوريا واليمن، أو بعبارة أخرى في البلدان القلقة، نُظُماً أو مُجتمعات، التي تسَبّبَت بزَعزعة إستقرار الشرق الأوسط لفترة طويلة، مِمّا سَمَح لأنظمة ذات أجندات مشبوهة كملالي إيران بالحصول على موطي قَدَم فيها، وتشكيل ميلشيات مرتزقة تتبَنّى قضاياها كحماس والجهاد وحزب الله والحوثي. النقطة الأهم هنا هي أن المنطقة ظلت لسنوات تشعر أن الأميركيين يُوَدّعونها، وما تَرَتّب على ذلك من عواقب سلبية على أمنها. لذا لم تعُد دولها تشعر بالأمان، وباتت تبحث عن حلول توافقية مع هذه الأنظمة، التي بات حضورها في المنطقة أكثر من الغرب، وأبرزها إيران وروسيا والصين.

بوتين إستشعر هذا الأمر بحِسّه المخابراتي، ولكونه مُصاب بداء العظمة، ويبحث عن دور أكبر مما يتناسب مع إمكانياته وإمكانيات بلاده، وجد أن ما يُمكن أن يُحققه من نفوذ ومَجد شخصي عبر التحالف مع إيران ومحور الشَر، أكبر مما حَققه من التحالف مع الغرب، رغم أن الغرب لم يُقلل من قيمته وقيمة بلاده، فلفن بلاده وثقافتها القدح المُعَلّى في الغرب، وحتى هو رغم إختلاله، كان يُستقبَل في العواصم الغربية إستقبال القياصرة، لأن هذه الدول كانت تعلم أهمية هذا الشعور بالنسبة له، وتسعى لتجنّب شرّه. لكن كل هذا لم ينفع، لأن بوتين لا يبحث فقط عمّن يتعامل معه بإحترام، بل ويتعامل معه بدونية، أي يشعره أنه أدنى منه وبحاجة إليه، وليس نداً له. وهذا مثلاً ما أشعره به بشار الأسد، كما يَظهَر في العديد من أحاديثه مع بوتين، والتي يبدو فيها كتابع ذليل يتزلف لسَيّده، لذا لم يتوانى عن دَعمه بشكل مباشر وليس لوجستي فقط، وحَل جيشه بدَل الجيش السوري في مواجهة معارضة بشار، وكانت طائراته تدُك المدن السورية ببراميل متفجرة صُنِعّت في معامل روسية، هي نفسها التي تزود حماس بالسلاح اليوم! لكن هذا التغيير في بوصلة بوتين، لم يحدث بين يوم وليلة.

فبَعد وصوله للسلطة عام2000، حَرَص بوتين على رأب صَدع علاقة بلاده مع إسرائيل، التي كانت أقرب للقطيعة خلال العقود الأخيرة من الحقبة السوفيتية، بل وسَعى لتطويرها لِما يشبه الشراكة في مجالات الإقتصاد والسياحة والثقافة، وفي المَجال العسكري، خصوصاً أيام حربه مع الشيشان، حين شبّه صِراع بلاده ضِد الإرهاب بصِراع إسرائيل ضِد حماس، وهو تشبيه حرص على تكراره في لقائاته مع الإسرائيليين، الذين لطالما وصفوه بالصديق. وطوال فترة التسعينيات أدانت روسيا أنشطة حماس ووصفتها بالإرهابية، وأعضائها بالمتطرفين. لكن بعد إنتخابات 2006 غيّرَت نبرَتها، حين أعلن بوتين أن حماس إنتُخِبَت ديمقراطياً! ومِن يومها دَأب المسؤولون الروسية على اللقاء مع مُمثلي حماس. وأعلنت موسكو موقفها من حماس، التي يُصنفها الغرب كمنظمة إرهابية، على أنها منظمة سياسية مَشروعة. رغم أن إسرائيل حاولت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، الحفاظ على موقف مُحايد، ورغم محاولات زيلنسكي كسبها الى صَف بلاده، حتى أنها إقترحت لعِب دور وساطة بين البلدين! لأنها رأت بأن مصالحها مع روسيا أولى، والتي كانت تتركز في ضمان إستمرار حركة طائراتها بالمجال الجوي السوري لمنع توريد الأسلحة إلى حزب الله، وعَدَم الإضرار بوَضع الجالية اليهودية في روسيا.

ثم جائت أحداث السابع مِن أكتوبر لتُمَثل القشة التي قصَمَت ظهر هذه العلاقة، ففي حين أدان أغلب زعماء العالم هجوم حَماس الإرهابي، وقدّموا التعازي لحكومتها بعد المَجزرة التي نفذتها حماس في ذلك اليوم، إمتنع بوتين عن القيام بذلك، وشدّدت حكومته لهجتها تجاه إسرائيل، بمُقابل تأييدها المُبَطّن لحماس، بل وشَبّه هو قطاع غزة المُحاصَر مِن قبل إسرائيل بمدينة ليننغراد، حينما كانت محاصرة من قبل النازيين.!لذا علاقة حماس بروسيا لم تكن متينة كما هي اليوم، ولا عَجَب أنها شكرت بوتين علناً على ما وصفته بـ”جهوده الدؤوبة لإنهاء العدوان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني”. وفي الحقيقة لدى حماس مئات الأسباب لشكر بوتين. فموسكو أُبلِغت مُسبَقاً بخطط حماس الهجومية، وقدّمَت لها المَشورة، وزودَتها بالأسلحة، فقد تم العثورعلى أسلحة روسية لدى حماس، منها صواريخ أرض جو ومُضادة للدبابات، تم نقلها إلى غزة عِبر إيران. كما أعلن أحد قادة حماس أن روسيا مَنَحَتهم ترخيصاً لإنتاج الكلاشنكوف. وهناك تقارير إستخبارية تؤكد أن مليشيا فاغنر دَرّبَت مرتزقة حماس على طائرات بدون طيار خارقة للدروع. كما سَلّمت روسيا الأسلحة الغربية التي إستولت عليها في أوكرانيا إلى حماس. على صَعيد التمويل تعتمد حماس على سوق العُملات الروسي، حيث تقوم بتحويل ملايين الدولارات رقمياً للتحايل على العقوبات الدولية. وبحسب صحيفة وول ستريت، منذ أغسطس 2021 تم تحويل41 مليون دولار إلى حماس و93 مليون دولار إلى الجهاد الإسلامي، عبر بورصة غارانتكس الروسية للعُملات المُشَفّرة. لذا زعيم الكرملين يَدعَم حماس بحَماس في صِراعها مع إسرائيل. من جانبها تسعى حماس للحفاظ على هذه العلاقة الوثيقة، لما توفره لها من دعم مادي وزخم مَعنوي، يساعدها على البقاء ويُظهر بأنها مُرَحّب بها في واحدة من أهَم عَواصم العالم، ومَدعومة من عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة!

بالنتيجة إستمرار حَرب غزة، وبالتالي موت الفلسطينيين، يمثل إستثماراً لبوتين. أولاً لأنه يضمن إستمرار تصَدّر الحرب لعناوين الأخبار، والإبتعاد عن إدانة غزوه لأوكرانيا. ثانياً لأنه يخدم سردياته عن مسؤولية وفشل سياسة القطب الواحد، والحاجة للتعددية القطبية، مِن خلال ركوب موجة الدعم المؤيد لفلسطين في مُختلف أنحاء أوروبا، للتأكيد على أن العدو المشترك لفلسطين وروسيا هو الولايات المتحدة، من خلال تأطير الأزمة بين إسرائيل وغزة باعتبارها حَرباً بالوكالة مع الولايات المتحدة، عِبر نشر معلومات مُضللة في الإنترنت لتشكيل الخِطاب العام للوعي القطيعي لجَمهوره بشأن الأزمة، يَرتكز على تبرير غزو أوكرانيا، وتقويض الدعم الغربي لها، وتشويه صورة أمريكا، وتقويض سياستها الخارجية! ثالثاً لأنه ُيَوفر له فرصة لتوسيع نفوذه داخل قوى اليمين واليسار في الغرب لزيادة الإنقسام والاستقطاب المجتمعي، فالتدخل الروسي في السياسة الأوروبية، خاصة داخل الأحزاب اليمين واليسار، لم يَعُد سِرّاً يَخفى على أحد. رابعاً وأخيراً، وربما ليس آخراً، لأن في جُعبة ضابط المُخابرات السابق مما لا نعلمه الكثير، فإن إستمرار الحَرب وتصاعد روح العَداء للغرب في الكثير مِن المُجتمعات، التي باتت موبوءة بفايروس العَداء لأمريكا، وبوَهم إنتظار المُنقِذ، يُرَسِّخ الصورة التي يحاول ترويجها لنفسه، على أنه المُنقِذ المُنتظَر مِن الإمبريالية الأمريكية، وتقديم نفسه ونِظامه الوَحشي كبَديل لها.

Related Articles

Back to top button