كتب رعد أطياف: تتخرّج من مؤسستنا التعليمية فيالق من طلبة الدراسات الأولية. يمكننا الجزم حول النسبة المئوية لمن سيختارون التوظيف الحكومي، وأظنها نسبة تتعدّى الـ90%، وهو أمر طبيعي للغاية في بلد لا يزال فيه القطاع الخاص لا يلبّي متطلبات السوق المحلية.
فضلاً عن التاريخ الطويل للدولة العراقية التي تنتصر فيه بشكل واضح للقطاع العام، ويعتبره عموم المواطنين هو الملاذ الأساس لمستقبلهم القادم، حيث يلعب المرتب التقاعدي دوراً محورياً في المواطن العراقي، ويفضله على ذلك الكابوس المسمّى «قطاع خاص» سيئ السمعة، والذي لا يتمتع بالضوابط القانونية اللازمة لضمان حقوق موظفيه، باستثناء القانون الأخير الذي لن يغير، ربما، من الأمر شيئاً في المستقبل القريب على الأقل، إذ ما زال القطاع الخاص لا يشكّل نسبة حقيقية يمكنها أن تدعم العملية (الإنتاجية؟).
إلا أن الغرض الأساس من هذه الكلمات ليس الغوص في تفاصيل اقتصادية بحتة، بقدر ماهي نظرة لنظام التعليم الذي يخرّج فيالق من ذوي التخصصات النظرية ربما دون جدوى. فمن الواضح، مثلما أشرنا، أن الأعم الأغلب يتوّج رحلته التعليمية بوظيفة تضمن له مستقبله، لكنه يثقل كاهل الدولة عبر هذا الضخ المتزايد لأعداد الخريجين في دوائر لا تستوعب كل هذه الأعداد الضخمة، وكل هذه الأعداد، التي قد تعتبر أكبر كتلة بشرية يتم توظيفها في القطاع العام على مستوى العالم، أو، على الأقل، يأتي العراق في صدارة لائحة البلدان التي تعاني من الترهل الوظيفي.
ولا نعلم ماذا سيحل بهذه الكتلة البشرية الضخمة، التي ترهق الميزانية بكل تأكيد، وكيف سيتم التعامل معها لو تعرضت أسعار النفط إلى التذبذب، وهل ثم خطط اقتصادية لاحتواء ما يمكن احتواءه لو هبط سعر برميل النفط.
فلنكن متفائلين أكثر، ونفكر بطريقة أكثر عملية عبر التفكير بنظام التعليم نفسه، فما الضير مثلاً، لو تم التركيز على التعليم المهني، ومنحه الأولوية، عبر إنشاء معاهد مهنية نموذجية، والاستعانة بالخبرات العالمية الرائدة في هذا المجال (ألمانيا مثلاً)، كونها ستشكّل قفزة هائلة على صعيد التنمية البشرية، ويبدأ العراق يأكل، ويلبس مما يزرع وينتج، ضمن الإمكانات المتاحة، وأعني بها الصناعات الاستهلاكية على أقل تقدير، وتعاد الحياة لمعاملنا المهجورة.
ففي غضون عقد أو عقدين سيتجه الطلبة للتعليم المهني طوعاً منهم بعد أن تتسع دائرة فرص التوظيف في هذا الحقل المهم والحيوي. لا يوجد ثمة سبب مقنع في عدم التفكير الجدي بهذا المشروع الاستراتيجي الهائل.
يمكننا أن نجزم بهذه الحقيقة التالية: دائماً ما يكون ذوو القدرات النظرية أقل بالمقارنة مع أصحاب القدرات العملية. فلماذا لا تهتم الدولة بمعاهد مهنية (حقيقية) تدرب ذوي القدرات العملية بالشكل الأمثل. سيقال إن البلد يفتقر لبنية تحتية صناعية لكي تزج هؤلاء في مصانعها الكبيرة. لكن عبر هذا المشروع ستسهم الدولة في توفير مهارات عالية ينتفع الخريجون منها في مشاريعهم الخاصة، بدلاً من فيالق خريجي الحقوق والعلوم السياسية وغيرهم.
تنتهي حياة خريجي الدراسات الأولية بوظيفة مكتبية بائسة، والحلم بمرتب تقاعدي، فتتوقف أمنياتهم عند هذه العتبة، في حين يتمتع ذوو القدرات العملية بمهارات تمكّنهم بالاعتماد على أنفسهم. لا يتعلق الموضوع بمفاضلة ومقارنة أيهما أفضل من الآخر بقدر ما يُنظر للمسألة من جهة الحاجة الفعلية والمنفعة لأكبر عدد ممكن من الأفراد لتطوير مهاراتهم.
أعظم مشروع يمكن أن تقوم به الدولة هو تنظيم وتدريب الشباب على كيفية إدارة حياتهم وتطوير مهاراتهم، بدلاً من إغراقهم بهذا الفيضان الهائل من الوظائف الحكومية. لأن التاريخ يعلمنا، ويا له من معلم، أن الثروات البشرية، لو أحسنّا استثمارها، ستدر علينا الخير الوفير، ذلك أن مهندس أو فني ماهر أغلى من برميل النفط.