كتب طالب سعدون: نعم.. فخر لأهلها.. وعار للغزاة العدوانيين، أعداء الإنسانيَّة عامة والطفولة خاصة.. تقاوم الإبادة وترفض الاستباحة والتهجير وتفضل الموت على خيانة أرضها..
وأنا أطالع صور الأطفال وأمهاتهم وحالهم من على الشاشات في المستشفى المحاصر.. وهي لم تحرك للإنسانية بقايا ضمير أو قطرة حياء تذكرت صلاح عبد الصبور، وكأنه بين أطفال غزة يلقي كلمات قالها في مقدمة لديوان له (أحلام الفارس القديم) منذ عشرات السنين (1963) (معذرة يا صحبتي من أين آتي بالكلام الفرح؟)..
نعم.. وأنا وغيري ممن كتب عن غزة – الأسطورة والإعجاز في البطولة.. نقول أيضاً.. من أين نأتي بكلمات الفرح وصراخ النساء يحاصرنا كما هن محاصرات.. حوامل منتفخات البطون.. وأخريات ألقين بحملهن.. وأطفال رضع لجأن بهم إلى المستشفى علّهم ينجون من الموت..
أطفال يستنشقون رائحة الموت، الذي يلاحقهم.. أطفال تحاصرهم دبابات العدو وتمنع عنهم الأوكسجين والدواء، والماء والحليب والطعام..
وذئاب تحوم حول المستشفى وأخرى تنهش جثث أخوانهم، الذين سبقوهم إلى رحمة الله.. وجثث حاصرتها الأنقاض ويصعب الوصول إليها لثقلها على أجسادها الغضة..
عصر جديد وعودة إلى الوراء.. وغزة تؤرخ لهذا التحول.. تدين الإنسانيَّة في عودتها لعصر الظلام والجاهلية والتخلف والهمجية..
وصمة عار في جبين العرب ممن تخلى عن نصرتها والإنسانيَّة ممن سكت عن مأساتها.. وعنوان عز وفخر لأطفال غزة وأمهاتهم..
غزة.. درس لعلماء الإنسان والانثروبولوجيا.. بعد غزة وجريمة الإبادة، التي تعرضت لها أخذ الإنسان منها تعريفاً جديداً، فتأكد لكل عاقل يحمل هذه الصفة أنها لا تنطبق على جميع البشر..
يقولون عن الإنسان أنه ذات تحترم القانون والأخلاق والقيم.. والإنسان هو خليفة الله في الأرض والمسؤول عن صلاحها وإصلاحها..
فهل هؤلاء الغزاة.. العدوانيون.. القتلة.. المجرمون.. وقل ما شاء لك، وما تعرف عن صفات الإنسان وماهيته ينتمون إلى هذا الصنف من البشر..؟
غزة تجيب وهي تكتب التاريخ الجديد.. والعلم الجديد.. ترفض التهجير وتتمسك بأرضها وتاريخها وترفض، مهما غلت تضحيات موقفها أن تعامل كما تعاملوا مع الهنود الحمر عندما اغتصبوا أرضهم.. لأنهم أحفاد المجد والحضارة والتاريخ العريق والقيم العالية. أحفاد من علموا الإنسانيَّة العلم، وهو أجمل خدمة قدمتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث على حد قول برينولت في كتابه (تكوين الإنسانيَّة..)
وغزة اليوم تعطي درساً في البطولة والفداء والتمسك بالأرض والحق.. ذلك حكم التاريخ.. والتاريخ ثابت والسياسة في تغير.. لا يتغير بتغير السياسة والحكام.. والتاريخ صاحب ضمير يكتب الحقائق وينقلها كما هي وليس كما يتمنى من تدينه تلك الحقائق.
الأخلاق والمهنية والعلمية هي معيار التاريخ، وليس كما يريد هذا الحاكم أو ذاك السياسي..