كتب أسامة خليفة… أفول عام وقدوم عام، هو يوم للوقوف على أحداث مضت نتذكرها ونعيد تقييمها.
ومازالت الحرب مشتعلة تهدد بالتصعيد الذي يقضي على كل تفاؤل بعام جديد يحل فيه السلام ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط بل على العالم كله، وعجلة التضخم الاقتصادي العالمي تتزايد مهددة بالكثير من الفقر والعوز، ومن البؤس لشعوب العالم الثالث خصوصاً.
ما أكثر الاختلافات بين عام طوفان الأقصى «2023» وعام النكبة «1948»، وما أشد الشبه بينهما، عامان ثقيلان جداً على الشعب الفلسطيني، عام تقادم وتوالت عليه سنوات طوال، ومازالت الذاكرة الفلسطينية تستحضر مآسيه لأن تداعياتها مازالت ملموسة ماثلة أمام عيني الشعب المنكوب، وعام آخر ما زالت أيامه الأخيرة نازفة دماً تمضي ساعاته ببطء، يصلح هذا الثقل الدامي لعقد مقارنة وقد لا يصلح، لا تشابه مطلق، ولا اختلاف إلى درجة التضاد والتعاكس، إنما حاولت إسرائيل صنع نكبة جديدة، تشابه إلى حد ما النكبة الأولى، ومارست العام الذي مضى «2023» ذات العدوانية الهمجية التي صنعت بها نكبتنا الأولى «1948»، النكبة الأساسية، ليس لحجم التشرد واللجوء، ولا لأنها شهدت ضياع وطن نكافح من أجل استعادته، بل أيضاً من قيام كيان لعين شرير دموي إلى أبعد الحدود عمل قتلاً وتدميراً دون رادع، وهكذا بقي هذا الكيان بعد 75 عاماً على ما أسس عليه، عدوانية وعنصرية ترشح الأوضاع الراهنة أن تتابع إسرائيل ما بدأته من بشاعة وقذارة حربها ولؤم مشروعها، تبرز العدوانية المتأصلة في عقلية القائمين به، لذا تستمر سياسة القتل والتنكيل.
ومع بداية العام القادم «2024»، ورغم الإدانات من المؤسسات الإنسانية والدولية واستنكار شامل من كل شعوب العالم، هذه السياسة النازية الاستيطانية الهمجية ما زالت قائمة متواصلة منذ بدء التنفيذ العملي للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، ذات الأساليب العدوانية الوحشية، من التهجير والتطهير العرقي والإبادة الجماعية وارتكاب المجازر تلو المجازر، وهدم البيوت وإزالة قرى بكاملها من الوجود، وامتدت هذه السياسة وتواصلت دون انقطاع، وقد تصاعدت في المنعطفات، وخلال الحروب الساخنة، وما تلاها، كما في عام النكسة، وفي عام النكبة «1948»، بل وفي أعوام السلام المفترض، أعوام اتفاق أوسلو، حيث استغلت إسرائيل خلالها الفرصة المتاحة للمضي في طريق سياسة المماطلة والاستيطان وفرض الأمر الواقع.
في السنوات التي تلت النكبة طال التدمير الكلي أكثر من خمسمئة قرية، يضاف لها أحياء واسعة في المدن في يافا وحيفا والقدس وباقي المدن الفلسطينية، أليس مشهد التدمير الشامل للأبنية والمنازل في غزة حالياً نسخة عن مشهد التدمير عام النكبة؟. وإن اختلفت الوسائل والأدوات من عبوات ناسفة استخدمتها عصابات الأرغون والشتيرن والهاغاناه والبالماخ في تفجير المنازل بعد إخلائها من سكانها، وارتكاب جرائم إعدام أصحابها أمام جدرانها، أما الآن فالقتل والهدم متزامنان، ويستشهد أصحاب البيوت تحت سقوف أبنيتهم المدمرة بكل وسائل الدمار الحديثة من صواريخ وقنابل ثقيلة ومنها MK-84 التي تزن «2000» رطلاً، تستخدمها إسرائيل في غزة في مناطق سكنية عالية الكثافة السكانية، زودتها بها الولايات المتحدة شريكها في العدوان وقتل الأطفال والنساء والأبرياء، ودمرت بواسطتها مدن محافظة شمال غزة بكامل بنيتها التحتية، ولم تعد صالحة للسكن، لاسيما مدينة غزة بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا وضاحية الشيخ زايد السكنية وتل الزعتر، ولعل أكثر الأساليب الكيدية وقاحة وحقداً، ومحاولة للإذلال، إجبار الفلسطينيين على هدم منازلهم بأيديهم، وأكثرها عنجهية واستهتاراً بالقانون الدولي هدم إسرائيل لبيوت أسر منفذي العمليات ضد الجنود والمستوطنين باعتباره عقاباً جماعياً انتقامياً ضد أسرهم، يخالف الشرائع الإنسانية والدولية، تصر عليه الحكومات الإسرائيلية المتتالية، رغم أنه لا يشكل رادعاً يمنع أو يحد من استمرار المقاومة للاحتلال، إذاً المقصود به هو التطهير العرقي باقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم من مناطقهم والاستيلاء على أرضهم.
رغم كل ما عاناه الفلسطينيون في غزة الصامدة، من افتقاد للمكان الآمن، وتواصل القصف الشامل دون انقطاع والذي استهدف المدنيين العزل الآمنين في منازلهم، إلى الحصار بهدف التجويع، إلى استهداف سبل الحياة كافة من ماء وغذاء ودواء، إلى العمل المتعمد على انهيار المنظومة الصحية، صمد سكان القطاع ورفضوا المشروع الإسرائيلي الأمريكي بالتهجير إلى سيناء، وتمسكوا بأرض وطنهم، فقد كان اللجوء والتشرد في العام «1948» درساً قاسياً فاق التصور، أدرك الفلسطينيون أن لا هجرة مؤقتة، وأن المؤقت يصبح دائماً، فقد خرج الفلسطينيون من ديارهم عام «1948» على أمل العودة بعد أيام، مضى منها «75» عاماً ولم تنقضِ هذه الأيام بعد.
منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم الّتي تركوها خلال حرب «1948»، بل وعملت على التهجير الجماعي للكثير ممن تبقوا على أرض وطنهم، ثم وفي الـعشرين من آذار/ مارس «1950» سنّ الكنيست قانون «أملاك الغائبين» الذي سمح لسلطات الاحتلال الاستيلاء على أملاك المهجّرين من أراضي فلسطين المحتلّة في سرقة علنية في وضح النهار.
يستقبل العالم عام «2024» بداء القلق المعهود الذي يصيب القائمين على الأمم المتحدة، ومؤسسات حقوق الانسان، كلما توترت الأوضاع بين إسرائيل والفلسطينيين، قلق مترافق بمتلازمة العجز، تقعدهم عن العمل على إزالة عامل التوتر والسعي لإنهاء الاحتلال، الموقف المتفرج على بث مباشر لأهوال مؤلمة لكل حس إنساني، والكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، ألا يوجع ضمير الإنسانية؟. هذا الضمير إن لم يتحرك بشكل فعّال لينصف المظلوم، فليتوقعوا أن يكون «2024» عاماً متوتراً ساخناً، أكثر سخونة من سابقه، وتوقّعوا أن يجلب المزيد من الألم لهذا الضمير إن أبقته إسرائيل والولايات المتحدة حياً.
الأول من كانون الثاني رأس السنة الجديدة «2024» يصادف الذكرى الـ« 59» لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، يجدد فيها شعبنا المناضل العهد على متابعة المسيرة نحو الحرية والاستقلال ورفض الوصاية والاحتلال، وكما شهد مطلع العام «1965» انطلاقة ثورة، التي كانت لحظة انعطاف تاريخية لمرحلة جديدة في مسيرة نضال شعب فلسطين، لتبدأ حركته بالتصاعد والعنفوان وصولاً إلى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ليكون يوماً مشهوداً لا ينسى، يوماً له أهمية كبيرة وتاريخية، ينبأ بمستقبل الصراع وحتمية انتصار الثورة الفلسطينية وتحقيق كامل أهدافها الوطنية.
نودع عاماً مضى كان حافلاً بالأحداث والتطورات والمفاجآت، صبغ المشهد الفلسطيني بالدم الزكي، أدت الهجمات الإسرائيلية اليومية من جيش الاحتلال والمستوطنين على الضفة الغربية وشرقي القدس إلى استشهاد أكثر من 500 فلسطيني، في القدس اقتحامات واشتباكات، وفي الضفة تصدي وعمليات، وفي القطاع قصف وإطلاق صواريخ، الأيام الأولى للعام «2023» دلت أنه سيكون عاماً ساخناً، جاء على وقع اقتحامات قام بها الجيش الإسرائيلي للعديد من البلدات في الضفّة الغربية، بهدف الاغتيال والاعتقال لمقاومين فلسطينيين مطلوبين لسطات الاحتلال.
أما المستوطنون فارتكبوا أكثر من «2270» اعتداءً ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، أسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن «17» فلسطينيا، فضلاً عن هدم أكثر من «600» منزل ومنشأة فلسطينية، وتشريد أكثر من ألف فلسطيني.
وقد جاءت إلى السلطة حكومة إسرائيلية من اليمين المتطرف التي تريد حسم الصراع وإنهاء القضية الفلسطينية قبل أيام قليلة من قدوم العام «2023» وتحديداً في «29» ديسمبر «2022»، تم تشكيل حكومة اسرائيل السابعة والثلاثين، حكومة اليمين الأشد تطرفاً برئاسة نتنياهو، وعضوية فعّالة من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تولت التصعيد الميداني لفرض الأمر الواقع، وتجاوزت الجانب الفلسطيني ومضت قدماً في إجراءات الضم العملي للضفة الغربية المحتلة، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وفرض السيادة الكاملة على القدس المحتلة كعاصمة موحدة لدولة الاحتلال.
وصعدت اعتداءاتها باجتياحات متكررة ضد مدن فلسطين وقراها ومدنها ومخيماتها، وفي الحصيلة، وفي كل مرة عدد كبير من الشهداء والجرحى، معظمهم من المدنيين.
وكان لمدينة جنين ولمخيمها النصيب الأكبر من هجمات القوات الإسرائيلية واقتحاماتها، في الشهر الأول كانون الثاني/يناير «2023»، توغلت قوة إسرائيلية في مخيم جنين، أدت الاشتباكات إلى استشهاد عشرة فلسطينيين وجرح العشرات، ظلت مدينة جنين ومخيمها بؤرة ساخنة طوال «2023»، لاحق الاحتلال مقاومي كتيبة جنين، والذين ترى فيهم إسرائيل خطراً على أمنها، تكررت الاقتحامات الإسرائيلية بشكل شبه يومي، وأدت إلى استشهاد أكثر من «150» فلسطينياً من جنين ومخيمها حتى «20» ديسمبر/كانون الأول، وبرزت خلال هذا العام الاستهدافات بالطائرات المسيّرة وقصف المنازل، وكانت أبرز الاغتيالات في الثالث من يوليو/تموز خلال «معركة بأس جنين»، حيث اقتحمت قوات الاحتلال المدينة ومخيمها بأعداد كبيرة من الجنود والآليات، بذريعة أنّ عمليتها العسكرية هذه في جنين ستمنع عملية فلسطينية كبيرة في إسرائيل، أسفر الهجوم الإسرائيلي الكبير عن استشهاد «12» فلسطينياً والمئات من الجرحى أغلبهم مدنيون، واعتقال «300» شاباً فلسطينياً، وأحدثت دماراً هائلاً للبنية التحتية للمدينة حيث أُتلفت شبكتي المياه والكهرباء كما تم تدمير نحو «800» منزل، وقتلت المقاومة جندياً إسرائيلياً واحداً وجرحت آخرين، وأعطبت عدداً من الآليات والجرافات وناقلات الجند المدرعة وأسقطت خمس طائرات مسيّرة.
كذلك شهدت مدينتا نابلس وطولكرم تصعيداً ميدانيا خلال «2023» بسبب تكرار الاقتحامات الإسرائيلية لملاحقة عناصر كتيبة عرين الأسود، وملاحقة عناصر “كتيبة طولكرم” في مخيم نور شمس.
أدت الاقتحامات إلى استشهاد نحو «90» فلسطينياً في نابلس، و«65» شهيداً في طولكرم حتى «20» كانون الأول/ ديسمبر ، بينهم عدد تم استهدافه بطائرات مسيرة.
فجر يوم الرابع والعشرين من تموز/يوليو «2023» اجتاحت إسرائيل مخيم نور شمس في مدينة طولكرم بأكثر من «60» آلية عسكرية في اقتحام واسع لم تشهده المدينة منذ الانتفاضة الثانية بهدف توجيه ضربة عسكرية لكتيبة طولكرم، وأدى الاجتياح إلى وقوع «13» إصابة في الجانب الفلسطيني، واستطاعت كتيبة طولكرم تفجير عبوات ناسفة بالآليات الإسرائيلية.
لم يفلح جيش الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة التي بقيت مستعدة وجاهزة لمواجهة قادمة طالما استمر الاحتلال والعدوان على الشعب الفلسطيني.
وتعرض المسجد الأقصى لاقتحام مئات المستوطنين، وشارك في عمليات الاقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير الذي أدى طقوساً تلمودية في باحات المسجد في ذكرى «خراب الهيكل» مع باقي المقتحمين في عمل استفزازي تنفيذاً لمخطط التهويد، بغطاء رسمي وحماية من الجيش الإسرائيلي، حيث منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين الفلسطينيين من الدخول إلى الأقصى، واقتصر دور السلطة الفلسطينية على إدانة الاقتحام الإسرائيلي.
مع نهاية العام «2023» ودخول العدوان على غزة يومه الـ«87»، يحاول الخبراء والمحللون السياسيون التنبؤ أو رسم صورة متخيلة لملامح الوضع العالمي في العام المقبل أهمها ما يتعلق بالنظام العالمي القائم على القطب الأوحد المهيمن عليه أمريكياً في ظل موجة من الأحداث المفاجئة والتي لم يتنبأ بها أحد في هذا العام الآفل، كان أهمها على الإطلاق عملية طوفان الأقصى، يستوضحون المرحلة المقبلة بالإجابة على التساؤل عن التطورات والتداعيات التي ستؤدي إليها عملية طوفان الأقصى، وقد اتفق الجميع على أن زلزلاً استراتيجياً قد أحدثته هذه العملية في الوعي الوجودي لدى الإسرائيليين اليهود، وأقل تداعياتها أنها ستودي بحكومة اليمين المتطرف، وتنهي الحياة السياسية لنتنياهو المتعطش للزعامة وللدم الفلسطيني.
هل يشهد العام الجديد «2024» عملية سلام حقيقية ذات معنى؟. وقد صار من المؤكد لدى الكثير من المتابعين أن العام الجديد سيشهد فشل الهجوم والتوغل البري في تحقيق أهدافه المعلنة، وستتكبد إسرائيل خسائر جسيمة في جنودها القتلى والجرحى والمعاقين، ومن معداتها وآلياتها العسكرية المدمرة، ولن تتمكن من القضاء على المقاومة في غزة، ذلك لن يؤدي فقط إلى زلزال في الوعي الوجودي للإسرائيليين، بل هبوط في الروح المعنوية للجنود والمستوطنين، بالمقابل شهد العام الماضي رغم الأهوال رفض الفلسطينيين للنكبة بصمودهم الأسطوري وقبول التضحية منعاً لحدوثها، بالصورة التي جرت عام «1948».
والسؤال المطروح: القضية الفلسطينية إلى أين؟. لم يتنبأ أحد بما سيحدث في غزة، فكانت عملية طوفان الأقصى مفاجأة للجميع، والجميع الآن ينتظر مفاجأة من العيار الأثقل تقرب الكيان من الزوال.