لم يكن يخطر في بال أحد، لاسيما العاملون في السياسة، من القادة ومعاونيهم، أن يأتي يوم ليكون المخفي من الأحداث والأخبار بكل أنواعها وأشكالها تحت مجهر الرأي العام وفي متناوَل أعين وأسماع الجميع بلا استثناء، وذلك عبر وسائل إعلامية مستحدَثة، أُطلق عليها تسمية (مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية)، ومثال عليها، مواقع الفيس بوك وتويتر ويوتيوب، ثم التحقت بها مواقع أخرى.. لتنضم الى وسائل الإعلام المعروفة، وإن لم تكن ذات مهنية مقصودة، كما هو الحال مع وسائل إعلامية أقدم منها، كالصحافة، والتلفاز، والإذاعة وسواها، لكنها والحق يُقال بسبب فاعليتها وحضورها الآني ودرجة التفاعل التي تتيحها للمستخدمين، باتت أكثر تأثيرا من الوسائل الأخرى في التأثير بالرأي العام.
في البداية لابد أن نقدم أو نخوض في الأدلة التي تثبت بأن وسائل التواصل، أو ما أطلق عليها بالعالم الافتراضي، ذات تأثير فعال ومباشر في توجيه الرأي ومساراته واتجاهاته، فهل هناك ما يثبت أنها باتت تمتلك تأثيرا من هذا النوع بصورة فعلية؟ وما هي الشواهد التي تثبت هذا التأثير وهذه الفاعلية؟.
إن استثمار هذه الوسائل الإعلامية الحديثة، والتي تمتلك خاصية التفاعل الآني، بالصورة الصحيحة، جعلها قادرة على تأليب الرأي العام على الحكومات العسكرية، (بغض النظر عن الجهات التي خططت ونفذت وبعيدا عن الأهداف الخفية لهذه المخططات)، فموضوعنا الآن ينحصر في قدرة هذه المواقع الإلكترونية على التأثير في الرأي العام، وتوجيهه في مسار معين، وعندما نقارن بين وسائل الإعلام القديمة أو المعروفة سابقا كالصحف والتلفاز، وبين وسائل التواصل الاجتماعي، فإننا حتما سوف نكتشف الفارق الكبير بينهما من حيث سرعة التأثير في الرأي العام وتوجيهه.
من المهم أن يعترف المهتمون والمعنيون، قبلوا بذلك أم أبوا، وخاصة أولئك العاملون في الميدان السياسي، بالتأثير الكبير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي على الواقع المعاش، ومدى تأثيرها في الواقع الجماهيري، وقدرتها على تحريك التيارات الجماهيرية في هذا الاتجاه أو ذاك، ففي العراق مثلا شكلت هذه الوسائل الإلكترونية الحديثة حالات ضغط متواصل على السياسيين، وجعلتهم يحسبون ألف حساب لأية خطوة يقدمون عليها لا تصب في صالح الشعب أو تعمل بالضد من مصالحهم المختلفة.
فمثلا كما لاحظنا ذلك عبر السنوات الماضية العشرات من صفقات الفساد تم فضحها على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وكثير منها تم إيقافه أو تجميده، بسبب فضح هذه الصفقات الوهمية أو الفاسدة في هذه المواقع، كذلك هنالك عدد من الشخصيات السياسية التابعة لبعض الأحزاب أو الكتل السياسية، تم تحييدها وإخراجها بعيدا عن العمل في الساحة السياسية، وذلك بعد أن امتلأت صفحات الفيس بوك والمواقع الأخرى بالقضايا المسيئة للشعب، والتي تم تحميل مسؤوليتها لتلك الشخصيات، لاسيما ما يتعلق بتقويض المال العام والتجاوز عليه أو إهداره بطريقة أو أخرى.
في مجال الخدمات، كان لهذه المواقع التي باتت تنتسب للإعلام الأكثر تأثيرا، كانت هناك ضغوط قوية على الوزارات والمؤسسات والدوائر الخدمية، بحيث امتلأت هذه المواقع بالأخبار الساخرة، والضاغطة، والرسوم بأنواعها لاسيما تلك التي تسمى بفن (الكاريكاتير)، بالإضافة الى أنواع (البوستات) التي أجبرت في وقتها العديد من المسؤولين الى تعديل مواقفهم بما يصب في صالح الشعب، ومع أن بعض المسؤولين تعامل بأسلوب اللامبالاة مع ما يُنشَر في مواقع التواصل، إلا أن هذا النوع من المسؤولين فقد مستقبله، فالذاكرة الشعبية لا تنسى من يسيء لها مهما كانت أساليبه ومحاولاته في التقرب الى الناخبين.
وبذلك لا يستطيع أي من السياسيين وغيرهم، أن يحيّد الدور الفاعل لهذه المواقع في بلورة وتوجيه الرأي العام، الأمر الذي جعل منها قوة ضاغطة في الاتجاه السليم، وعندما نقارن بين درجة التأثير التي تصنعها شبكات التواصل الاجتماعي في الرأي العام، وبين الوسائل القديمة كالصحف والتلفاز والإذاعة، فإننا حتما سوف نكتشف سرعة ودرجة التأثير بالنسبة لهذه المواقع، بالقياس الى ما يتحقق في هذا المضمار عبر الوسائل الإعلامية التقليدية، حيث التأثير الفعال والسريع في الرأي العام يتم بوساطة مواقع التواصل، ولا تلغي دور وسائل الإعلام الأخرى، لكن لابد أن نوضّح الفارق بينهما من السرعة ودرجة التأثير وما شابه.
من الأمور التي باتت واضحة للجميع، أن العوالم الافتراضية، أو ما يُطلَق عليها بشبكات التواصل الاجتماعي، هيمنت على العالم أجمع، وباتت جميع الدول والكيانات السياسية المستقلة أو سواها، تحت السلطة الرابعة (الإعلامية) لهذه المواقع، فنادرا ما تجد دولة أو مدينة أو حتى قرية لم تصل إليها الشبكة الاخطبوطية (الإنترنت) وبالتالي وقوعها ضمن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها.
ومهما كان نوع النظام السياسي في هذا البلد أو ذاك، فإن هذه المواقع باتت تسلط الضوء على خفايا السياسيين والفظائع التي يرتكبها بعض المسؤولين الفاسدين، ما يجعلهم في قبضة العدالة الشعبية أو حتى القضائية، حتى لو كان الفساد يهيمن على مجريات الأمور، لذلك من الخطوات المهمة التي ينبغي أن تتشبث بها المنظمات الضاغطة في مواجهة الحكومات الفاسدة، هي استثمار هذه الفاعلية الإعلامية القوية والمباشرة، ووضع المؤسسات والدوائر الرسمية الحكومية تحت القوة الإعلامية المؤثرة لهذه المواقع.
وكما ذكرنا سباقا، أن المسؤول أو السياسي الذي يتجاهل مطالب الشعب، ويغض الطرف عن المساوئ التي يرتكبها هو أو من يتبعه من المسؤولين، فإن مصيره المؤكد هو (خسارة) مستقبله السياسي بصورة حتمية، وكما هو معروف، فإن الإنسان بطبعه الحرص على عمله ونجاحه في هذا المضمار، فإذا أهمل الرأي العام الذي تصنعه شبكات التواصل بقوة وسرعة، فإنه بذلك يجازف بمستقبله، ومن باب أولى بنجاحه السياسي، فيغامر بخسارة أكيدة لمستقبله، لأن الناس بطبعها لا تحب من يفضّل نفسه وحزبه وعائلته عليها.
وعندما يتم تحييد وإفشال مسعى وفساد هذا المسؤول أو ذاك، فهذا يعني أن الرأي العام استلم الأدلة والمؤشرات الدقيقة التي تثبت تورط هذا المسؤول أو ذاك بالفساد وما شابه، وهذا يعني طرده من ساحة العمل السياسي، وبالتالي خسارته الفادحة لمستقبله السياسي، ما يعني وجود التأثير الفاعل لهذه الشبكات الاجتماعية وتأثيرها الكبير في توجيه الرأي العام، لاسيما إذا تم التعامل معها بعلمية وذكاء واستثمار سليم.