كتب الدكتور عدنان هادي جعاز: تعتمد الحكومة سياسة الدعم المالي لمجموعة من السلع الاستهلاكية، ومجموعة من طبقات المجتمع، ولا شك أن اعتماد آلية سليمة للدعم، تعمل على تحقيق جملة من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الانية والمستقبلية، من خلال إعادة توزيع الدخل ودعم الشرائح الهشة والفقيرة، فضلاً عن أنها تدعم نمو الإنتاج والثروة القومية، ما يؤدي إلى دعم مسيرة التنمية في العراق، ولأن الموارد المالية محدودة، فيجب استخدامها بشكل كفوء، الذي يحقق أقصى منفعة لجميع أفراد المجتمع العراقي.
قامت الحكومة بالآونة الأخيرة بإعادة سعر البنزين المحسن لما قبل العام 2020، مما يعني أنها أصبحت تدعم 50% من سعره بدلاً من 60%، فالحكومة تشتري لتر البنزين المحسن ب1700 دينار وتبيعه للمواطن بـ 850 ديناراً، وبشكل عام خسر العراق في عام 2022، مبلغ 2 مليار دولار لدعم سعر البنزين، ولم يختلف الأمر كثيراً عنه في عام 2023.
وقد اختلفت الآراء بين مؤيد ومعارض لهذا القرار، الا أنه من الملاحظ أن أغلب الاقتصاديين أيدوا قرار خفض الدعم ورفع سعر لتر البنزين المحسن.
ونحن هنا نحاول أن نبين أسباب هذا التأييد.
فإذا علمنا أن عدد السيارات في العراق 8 ملايين سيارة، 18% منها فقط تستخدم البنزين المحسن، تتحمل الحكومة وبحسب الإحصائيات مبلغ مليار دولار سنوياً لدعم استهلاك 18%، ولا شك أن لهذا الدعم آثاراً اقتصادية وبيئية مختلفة، فقد تسبب هذا الدعم بزيادة استهلاك البنزين المحسن خصوصاً بعد عام 2020، عندما تم خفض السعر من 850 ديناراً إلى 650 ديناراً للتر الواحد، إذ وصلت استيرادات العراق عام 2022 إلى 3.5 مليون طن، وزيادة الطلب على السيارات، التي تعمل بمحركات ثماني الأسطوانات، وهذا ما نلاحظه بشكل جلي بشوارع العراق.
إن هذا الأمر أثر زيادة الطلب على الدولار، فالحكومة أنفقت مليار دولار سنوياً، لاستيراد البنزين المحسن، والمواطنون زادوا من طلبهم على الدولار لاستيراد السيارات ذات المحركات الكبيرة، فالتقارير تشير إلى أن العراق أصبح الدولة الأولى عالمياً باستيراد سيارات التاهو واليوكن الأمريكية، والتي يتراواح سعرالواحدة منها بين 70-80 ألف دولار أمريكي.
وهنا تحدث المفارقة فبالوقت الذي تطمح الحكومة على تقليل الطلب على الدولار، نجد أن دعم سعر البنزين قد أسهم وبشكل فاعل بزيادة الطلب عليه، والمفارقة الثانية أن الحكومة ومنذ سنوات تحاول تحفيز المواطنين لاستخدام الغاز بدلاً من البنزين، مما يزيد من فرص استثمار الغاز الذي يحرق منه جزء ليس بالقليل، وفي الوقت نفسه يقلل من استهلاك النفط محلياً، لكن من الواضح أن الحكومة نسيت هذا الهدف وما له من آثار إيجابية اقتصادية وبيئية، وبمناسبة ذكر البيئة، لا شك أن زيادة سعر البنزين سيزيد من الطلب على السيارات الاقتصادية والهجين (الهايبرد) والسيارات الكهربائية.
بمعنى أن زيادة سعر البنزين، سواء كان مستورداً أو منتجاً محلياً سيكون له أثر إيجابي على البيئة والاقتصاد أكبر بكثير من إيجابيات تخفيض السعر والتي تنحصر بسبب واحد فقط، وهو الخوف من ارتفاع أجرة النقل وبالتالي ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ولو فرضنا جدلاً أن هذا الأمر صحيح مع أنني على قناعة تامة أنه غير دقيق، فسيارات الأجرة وهذا ما نلاحظه في محطات البنزين ليست من 18% التي تستهلك البنزين المحسن ولا السلع تنقل بالسيارات التي تعمل بالبنزين أصلاً.
لكن لو فرضنا جدلاً أن زيادة السعر ستؤثر بزيادة الأجرة وبالتالي زيادة أسعار السلع والخدمات، فهنا يمكن لنا أن نطالب الحكومة وهذا حق من حقوق المواطنين عليها وخصوصاً الطبقة المتوسطة، فما دون بأن تؤسس منظومة نقل جماعي منظمة تكفل للإنسان احترامه وراحته، وفي الوقت نفسه تقلل من الازدحامات وتعمل على زيادة دخل المواطن، من خلال تقليل إنفاقه على النقل، سواء داخل المحافظة الواحدة أو بين المحافظات، وفي الوقت نفسه تحقق للموازنة عائداً مادياً، وبإمكان الحكومة استخدام ما خصصه لدعم البنزين، لبناء منظومة نقل متنوعة بين حافلات نقل جماعي منظمة داخلية وخارجية، وخطوط مترو وزيادة حركة القطارات.
وهذا ما تقوم به أغلب دول العالم، وحتى الرأسمالية منها، فقطاع النقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأغلب شرائح المجتمع، وبالتالي لا يمكن تركه للقطاع الخاص فقط وبشكل فوضوي، كما هو الحال في العراق.
وخلاصة القول يجب على الدولة أن تعيد ترتيب أولوياتها المتزاحمة، تحت سقف إيراداتها المحدودة، وأن تحدد بشكل واضح الشرائح الأولى بالرعاية، وأهدافها البيئية والاقتصادية، وتعمل على تحقيقها، بعيداً عن التجاذبات السياسية والهوس الإعلامي.
(خبير اقتصادي وتدريسي بجامعة النفط والغاز)