ضد السلبيَّة.. نحو نموذج إعلامي جديد

كتب محمد وهاب عبود.. إن إمعان النظر في المشهد الإعلامي الحالي يكشف عن هيمنة سرديات تركز على وطأة المشكلات، وكأن القدر العراقي قد وسم بدوامة من المصاعب.
بيد أن هذا الإغراق في التشاؤم قد يحجب وهج الأمل المنبثق من صميم التحديات، ففي ضوء المشكلات التي تثقل كاهل العراق، ثمة من ينادي بضرورة أن تبقى الصحافة مجرد مؤرخ للأحداث وناقل للأخبار، فيما يرى طيف آخر أن على الصحافة أن ترتقي لتصبح شريكا فاعلا في نسج حلول للأزمات المتفاقمة.
تتجلى قيمة ما يعرف بـ الصحافة البٌاءة/ الإيجابية، لا كمهرب من الواقع، بل كبؤرة ضوء تكشف عن المبادرات البناءة، والجهود المضنية التي تُبذل لإيجاد مخارج وحلول ممكنة. إنها صحافة لا تكتفي بتعداد المصائب، بل تنغمس في أعماقها سعيا وراء العلل الجذرية ثم تنطلق لتقصي الاستجابات المتاحة وإبراز التجارب الناجحة مهما صغر نطاقها.
إن الصحافة الإيجابية التفاعلية هي ليست صحافة تجميلية أو دعائية تتغاضى عن العيوب، بل هي نهج يقر بالمشاكل ولكنه يذهب أبعد من ذلك ليبحث بجدية عن المبادرات الناجحة والحلول المبتكرة والأفكار الخلاقة التي تولد في رحم المجتمع أو تطرحها العقول النيرة. إنها صحافة تؤمن بأن دورها لا يقتصر على النقد، بل يمتد ليشمل اقتراح البدائل ودعمها. وهي تفاعلية لأنها تشرك الجمهور بشكل حقيقي، لا كمستقبل سلبي للمعلومات، بل كمشارك فعال في النقاش وفي صياغة الحلول. إنها تفتح النوافذ للحوار وتبني الجسور بين أصحاب الأفكار والمواطنين والمسؤولين.
هذا النوع من الصحافة يتجاوز دور الراصد السلبي لتغدو محركا للتغيير، وشريكا في صناعة القرارات. إنها تستلهم من حكمة الفلسفة التي ترى أن الوجود الإنساني ليس مجرد تتابع للأحداث، بل هو سعي دائم نحو التطور والارتقاء. وكما أن الأدب بلغته يضفي على الحقائق مسحة جمالية ليلامس الوجدان، فإن هذه الصحافة تسعى لتقديم الأخبار بروح إنسانية تحتفي بالإنجازات المتواضعة وتزرع بذور الأمل في قلوب القراء.
ولو تخيلنا تغطية إعلامية لا تكتفي باستعراض أزمة شح المياه التي تخنق سكان مناطق معينة، بل تعكف على إنشاء فضاء تفاعلي يجمع خبراء الري والمهندسين والمزارعين والسكان المتضررين، لتبادل الأفكار الخلاقة وتقديم حلول عملية. ألا يمكن لهذا النمط من الصحافة أن يحفز الحكومة والمنظمات المعنية على تبني هذه المقترحات وتحويلها إلى واقع ملموس؟ أو منصة إخبارية لا تكتفي بنقل خبر انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، بل تستضيف ندوات حوارية مباشرة مع مسؤولين في وزارة الكهرباء ومهندسين متخصصين في الطاقة المتجددة، لعرض حلول مستدامة مثل مشاريع الطاقة الشمسية الصغيرة التي يمكن تنفيذها.
لنتمعن في مبادرة متواضعة في إحدى ضواحي بغداد إذ نهض ثلة من الشباب لتنظيف حيهم بأنفسهم وإعادة تأهيله، فصحافة إيجابية تفاعلية تستطيع أن تنقل هذه الحكاية الملهمة، وتحث أحياء أخرى على الاقتداء بها، بل وتزودهم بالأدوات والمعلومات الضرورية لتنفيذ مبادرات مماثلة. إنها ليست مجرد تغطية إخبارية، بل هي دعوة للعمل، ومشاركة حقيقية مع المجتمع في تشييد غد أفضل.
قد يرى البعض في هذا النهج مثالية مفرطة أو ابتعادا عن الموضوعية الصحفية الصارمة. لكن في الحالة العراقية قد لا تكون الموضوعية “الباردة” كافية. نحن بحاجة إلى صحافة تمتلك قلبا ينبض بالأمل، وعقلا يبحث عن المخارج، ويدا تمتد لتصافح كل من يحاول بناء جسر نحو مستقبل أفضل. إن تبني الصحافة الإيجابية التفاعلية ليس مجرد خيار مهني، بل هو ضرورة وجودية للمساهمة في إعادة نسج خيوط الأمل وبناء سردية جديدة للعراق، سردية لا تنكر الألم، لكنها تحتفي بإرادة الحياة والقدرة على ابتكار الحلول.
ويبقى العراقي تواقا إلى نافذة يطل منها على الإيجابيات، إلى صوت يهمس في أذنه بأن الحل ممكن، وأن التغيير ليس ضربا من المستحيل. هنا يكمن الدور المحوري للصحافة البناءة، كشريك أصيل في صياغة الحلول، وبناء عراق أكثر ازدهارا وأملا. فهي مسؤولية تقع على عاتق كل صحفي يؤمن بأن الكلمة ليست مجرد أداة للوصف، بل قوة دافعة نحو التغيير المنشود.