مقالات
أخر الأخبار

بغداد.. بين الصورة القديمة وحلم المستقبل

كتب رضا المحمداوي..  في البدء، يتوجب علينا النظر إلى النصف الملآن من الكأس الشاخص أمامنا، لنشير إلى القرار السياسي المتخذ من قبل الإدارة السياسيَّة العليا للبلاد، والقاضي بتقديم خدمات البنية التحتيَّة الأساسيَّة بعد سنواتٍ من الشلل والتقاعس والإهمال، في محاولة لوضع الحلول والمعالجات الآنيَّة والمستقبليَّة لما تعاني منه (بغداد) على وجه الخصوص من اختناقاتٍ وأزماتٍ مستفحلة في جميع مناحي الحياة اليوميَّة، وإنْ كان هذا لا يعني أننا لا نرى النصف الفارغ من ذلك الكأس!

وحينما أقول (بغداد)، فلا أعنيها بوصفها محافظة من بين المحافظات فقط، وإنما أقصدها بوصفها (العاصمة) السياسيَّة والاقتصاديَّة للعراق، والتي أخذت بالنمو والاتساع والتمدد في الجهات الجغرافيَّة الأربع المحيطة بها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فضلاً عن الانشطار التاريخي المعروف لجانبيها (الكرخ والرصافة).

والسؤال الاعتراضي: هل ثمة علاقة جغرافيَّة وإداريَّة – تنظيميَّة بين الكرخ والرصافة بجسورييهما المتعددة الممتدة بين الجانبين، أم أنَّ كل جانب أو شطر منها مستقلٌ بذاته؟ وفي كل جانب منها، وخلال سنوات طويلة، أُنشئت وتأسست وتكوّنت مدنٌ وأقضية ونواحٍ متعددة، في حين بقيت (بغداد) التاريخيَّة والتراثيَّة على حالها المتآكلة والمندثرة، بمدنها وشوارعها ومبانيها القديمة ذات الطابع المعماري التراثي، الذي يعود قسمٌ كبيرٌ منه إلى أيام الدولة العثمانيَّة، وبعدها الاحتلال البريطاني عام 1914، ثم حقبة العهد الملكي، قبل أنْ يبدأ تحديث بغداد مع بداية الجمهوريَّة الأولى (1958 – 1963(.

ولا بُدَّ من التذكير بأنَّ الامتدادات الجغرافيَّة للوحدات الإداريَّة لكلا الجانبين (الكرخ والرصافة) من بغداد (العاصمة)، هي من الاتساع والتمدد بحيث تصل إلى حدود التداخل مع حدود المحافظات الخمس المحيطة ببغداد، فمن الشمال هناك محافظة صلاح الدين، ومن الشرق ديالى، ومن الغرب الأنبار، ومن الجنوب واسط ومحافظة بابل. وأوّل ما تواجهك به بغداد في أطرافها المترامية، هي المداخل والمخارج المفتوحة على تلكم المحافظات، وتعرف عادة باسم (بوّابات بغداد). وبعد مرور سنواتٍ عديدة على البدء ببنائها، نتساءل: هل ثمة (بوّابات) شاخصة بخصائص بناء متميزة أو طرز معماريَّة أو أشكال هندسيَّة تفرّق بين محافظة وأخرى، وتشير إلى خصوصيتها أو توحدها جميعاً؟ وما يؤسف له أنَّ مشاريع بناء هذه البوابات قد شملتها شبهات الفساد وهدر المال العام، وفشلت فشلاً ذريعاً، وانتهت إلى توصيفٍ حكومي مخفّفٍ أدرجها ضمن قائمة (المشاريع المتلكئة).

وضمن هذه الرقعة الجغرافيَّة الواسعة والمتراميَّة الأطراف لـ(بغداد)، انتشرت بعد سقوط النظام الصدامي السابق عام 2003 مئاتٌ من التجمعات السكانيَّة العشوائيَّة المعروفة لدينا بـ(الحواسم)، وما زالت هذه (العشوائيات) في بغداد تحديداً من دون أيّ حلٍ جذريٍ ونهائيٍ لها. وسبق أنْ طُرحت عدة مقترحاتٍ وحلولٍ لمعالجتها، لكنها بقيت مجرد حبرٍ على ورق، وذلك لأسبابٍ كثيرة.

وفي إطار هذه الصورة التقليديَّة المعروفة عن (بغداد) بملامحها القديمة المتهالكة، وضياع هويتها الحضاريَّة بين الماضي الثقيل لمبانيها وطراز معماريتها، وبين تطلعها لحداثة الحاضر وانتمائها للمستقبل: كيف يمكن ضبط إيقاع نموها وتطورها وتكاثر مدنها المترامية والمتباعدة بأطرافها وأقضيتها ونواحيها، بل وحتى في قراها المتناثرة ومئات (العشوائيات) المنتشرة في أرجائها؟ وكيف يمكن أنْ تكون (العاصمة) نموذجاً متطوراً متنامياً من حيث الطابع المعماري وتنظيم الشوارع والطرق والمدن، ليتم تسويق نموذجها ومثالها المديني إلى المحافظات المجاورة أولاً، ومن ثم إلى محافظات العراق الأخرى؟.

إنَّ المأزق الذي تقف أمامه كلٌ من (أمانة بغداد) و(الحكومة المحليَّة) فيها، بمجلس محافظتها الذي يضمُّ أكثر من خمسين عضواً، هو مأزقٌ حضاريٌّ كبير، فطوال السنوات العشرين التي أعقبت سقوط النظام السابق، لم نجد أيَّة مؤشرات أو مخرجات تنبئ بخطة مستقبليَّة واضحة ومحددة لرسم خطوط ومسارات التطور الحضاري والعمراني لـ(بغداد) ضمن سقفٍ زمني محدد، وبعبارة أخرى: إنَّ الصورة المستقبليَّة لبغداد لم تتضح ملامحها لنا، ورُبَّما لم توضع بعد. لقد حضرت العمليات الترقيعيَّة لما (يتشقق) أو (يتمزق) أو (يبلى) لتكون حلاً مؤقتاً، وربما يجيء مشوهاً، لكنها بالتأكيد لن تكون جزءاً تأسيسياً طموحاً لصورة بغداد المستقبليَّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى