مقالات
Trending

الخروج على المألوف

عطية مسوح: كون أمر ما مألوفاً لا يعني بالضرورة أنه صحيح. فالكثير مما يألفه الناس كان صحيحاً أو ضرورياً ونافعاً وقت ظهوره، غير أنه فقد صحته مع مرور الزمن وأصبح ضارّاً، لكن كونه مألوفاً وموروثاً أبقى الناس متمسكين به، أو – على الأقل – راضين بوجوده.

كما أنّ بعض ما نجده مألوفاً في أيّامنا لم يكن صحيحاً منذ ظهوره، بل فرضته ظروف معيّنة أو مصالح وإرادات ذوي النفوذ في المجتمع، وكان مناسباً لمستوى الوعي في زمن ظهوره فقبِلَه الناس ثمّ توارثوه.. فالصحّة والخطأ مفهومان نسبيّان، مرتبطان بالزمان والمكان وخاضعان لمعاييرهما، أي إنّهما قابلان للتغيّر جزئيّاً أو كلّيّاً وفق مقتضيات الزمن وحاجة المجتمع.
وانطلاقاً من هذه النسبيّة، فإنّ موقفنا من المألوف ينبغي أن يكون موقفاً نقديّاً بعيداً عن التسليم، يقوم على النظر العميق في الموروثات التي ألِفناها، والتعامل معها تعامُلَ الفاحص المدقّق المستعدّ لمخالفة المألوف، ودعوة الناس إلى مخالفته حين لا يتوافق مع المصلحة العامّة ومعطيات العصر ويشمل المألوف الذي نتحدّث عنه الكثير من العادات والتقاليد والأفكار والمعتقدات وطرق التحكّم السياسيّ، وهذه كلّها تشكّل الجزء الأكبر من الثقافة السائدة، ولها قيمة اعتباريّة وسطوة على العقل الفرديّ والجمعيّ، إلى الدرجة التي تجعل من يخالفها منبوذاً في مجتمعه وإن يكن ممّن قدّموا للمجتمع خدمات جليلة في مجال من المجالات أو أكثر وإذا أنعمنا النظر فسنجد أنّ التسليم بالمألوف يعني التسليم بسلبيات الواقع، فكلّ إيجابيّ يصبح بالتقادم سلبياً، أي معوّقاً للحركة والتقدّم.
والإيجابيّ الجديد المؤهّل للحلول محلّ القديم يبدأ بالخروج على المألوف وتخطّي الواقع.
لكنّ ربطنا الخروج على المألوف بتخطّي الواقع لا يعني أنّ المألوف والواقع شيء واحد.
فالواقع حيّ متحرّك تتولّد فيه مقدّمات التغيير وبؤره وقواه، أمّا المألوف فهو تثبيت الواقع، إنّه مضادّ التغيير، يفرزه الواقع وترعاه القوى التي لا مصلحة لها بالتغيير التقدّميّ.
لذلك نجد هذه القوى ترمي الخارجين على المألوف بتهم متنوّعة، فتقول إنّهم متمرّدون، فوضويّون، مخرّبون، مبدّدون للقيم، خطرون على سلامة المجتمع.. حتى ظهر القول المعروف: (خالِفْ تُعرَفْ)، وهو وصم للخارجين على المألوف بأنّهم لم يخرجوا من أجل التغيير الذي يجدونه مفيداً لمجتمعاتهم، وإنّما طلباً للشهرة والبروز. وواضحٌ أنّ وراء هذا القول الاتّهاميّ قوى ترغب في المحافظة على المألوف المتّفق مع مصالحها، قوى اعتادت أن تتستّر بحِكَمٍ وأقوال يبدو فيها شيء من الصواب، هو في حقيقتة الصواب الذي يخدمها فقط.
قد يُخالف أحدهم فكرة أو عادة مألوفة حبّاً بالشهرة والظهور، ولكنّ هذا لا يُشكّل خطراً على النافذين والمتسلّطين، وليس هو المقصود بالتسفيه في قولهم (خالف تُعرف). لا ننفي أنّ الخروج على المألوف يعطي القائم به نوعاً من الشهرة، ولا نُنكر حقّ المرء في الطموح إلى ذلك، لكنّ وصف كلّ مخالف بالسعي إلى الشهرة، ونفي الدوافع السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة للموقف المخالف، وطمس الدور الإيجابيّ للمخالفة هي تعبير عن رفض التغيير، والتمسّك بالراهن، والرضا بالمألوف على علاّته.
إنّ المألوف قويّ لأنّ الناس اعتادوه وتوارثوه، وقويّ لأنّ مقوّمات تغييره لا تتكوّن دفعة واحدة، بل تبدأ صغيرة بسيطة تحتاج عيناً بصيرة تلمحها ويداً خبيرة تلتقطها وترعاها لتنتقل من همّ فردٍ أو أفراد إلى همّ جماعة أو جماعات. لكنّ قوّة المألوف لا تعني أنّ الخروج عليه مستحيل، فمسيرة التاريخ الإنسانيّ تثبت أنّ هذا الخروج هو الطريق إلى التقدّم، ولا طريق سواه.
المألوف قويّ، وقد يحطّم من يحاول الخروج عليه مرّة تلو مرّة، فالعين لا تستطيع مقاومة المخرز كما يقولون، ومع ذلك، فالمألوف ليس خالداً، وتراكم الأثر الذي يتركه الخارجون عليه سيؤول إلى زعزعته، فلا المخرز يظلّ صلباً يفقأ العين، ولا الصخرة تظلّ جلموداً يحطّم قرن الوعل.
لقد خرج كثير من المفكّرين والفلاسفة على المألوف، مدركين بعقولهم الثاقبة حاجة مجتمعاتهم إلى تغيير واقعها، معبّرين بكتاباتهم ومواقفهم عن تلك الحاجة، وخرج المبدعون على المألوف، فارتقوا بالفنون والآداب، وحمل كثير من المناضلين والسياسيين والمصلحين راية التغيير خارجين على المألوف الراسخ من جيل إلى جيل، فقدّموا لشعوبهم أعظم الفوائد.
كثيرون هم الذين خالفوا المألوف في السياسة والفكر والثقافة، ومنهم من نالوا شرف السبق وأوسمة الخلود، ولكنّ منهم أيضاً من قضوا جنوداً مجهولين، لم يذكرهم التاريخ ولم يعرفهم أحد، لكنّنا ندرك أنّه لولا مخالفتهم المألوف وخروجهم عليه لجمدت الحياة الاجتماعيّة وامتنع التطوّر.
إنّ سيف (خالف تُعرَف) الذي شهره المحافظون في وجوه المجدّدين ودعاة التغيير يجب أن يُكسَر، فوصمهم بالمخالفة طلباً للشهرة وإبراز الذات لا يفيد المجتمع، بل يفيده تقدير اجتهادهم وريادتهم ومبادراتهم وإن زعزعت ما اعتدنا عليه.
ما أجمل قول المفكر المصريّ الكبير الراحل خالد محمد خالد عن الثقافة، وما أجدره أن يسري على السياسة والعمل الاجتماعيّ! واقصد هذه الفقرة من كتابه (إنه الإنسان): «ولنرحّب بكل ثقافة تثير الذعر في نفوسنا لأنها دليل على أن بهذه النفوس خوفاً مذلّاً يجب أن يرحل، وبكلّ ثقافة تثير الشكّ في نفوسنا لأنها تزوّدنا بالبصيرة والفهم.»

 

لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرامالنعيم نيوز

و لمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التاليالنعيم نيوز

كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا علىقناة النعيم الفضائية

و لا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرامالنعيم نيوز

Related Articles

Back to top button