يمكن أن تؤدي العزلة الاجتماعية إلى إعاقة النوم، إلا أنه لا يزال غير معروف ما إذا كان العكس صحيحًا أم لا: هل يؤدي الحرمان من النوم إلى الشعور بالوحدة؟ وهل يدفع ذلك إلى انفصال اجتماعي أكبر عن الآخرين؟
دراسة حديثة لفريق من الباحثين من جامعة كاليفورنيا- بيركلي الأمريكية انتهت إلى أن الأشخاص المحرومين من نومٍ كافٍ يشعرون بالوحدة، ويكونون أكثر ميلًا لعدم الانخراط مع الآخرين، والأسوأ من ذلك أن شعورًا بالنفور منهم يجعلهم أشخاصًا غير جذابين اجتماعيًّا.
تشدد نتائج الدراسة على أنه ينتاب الأشخاص الذين يخالطونهم أيضًا شعورٌ بالوحدة، وسرعان ما يتحول الأمر إلى ما يشبه العدوى الفيروسية، لمجرد حدوث لقاء قصير مع شخص يعاني تلك المشكلة.
ورغم أن هناك العديد من العوامل التي ترتبط بالعزلة الاجتماعية والرغبة في الانسحاب بعيدًا عن التفاعل مع الآخرين، فإن الأدلة العلمية الجديدة تشير إلى أن الحرمان من النوم قد يكون أحدها.
يقدم الفريق البحثي، في هذه الدراسة، الدليل العلمي على أن قلة النوم تؤدي إلى النمط السلوكي والعصبي الظاهري للانسحاب الاجتماعي والشعور بالوحدة، ما يمكن أن يتم إدراكه من قِبَل أفراد آخرين في المجتمع المحيط بذلك الفرد، للدرجة التى تجعل من الأمر أشبه بعدوى تنتقل إلى بقية أفراد المجتمع. وتقترح الدراسة نموذجًا يحرِّض فيه فقدان النوم على دورة للانفصال والانسحاب الاجتماعي تعزز من ذاتها وانتشارها ذاتيًّا.
شعور قاتل
تُعَد العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة عاملَين من عوامل الخطورة التي ترتبط بالوفاة المبكرة، كما يرتبطان بالعديد من الأمراض المصاحبة لأمراض عقلية وأخرى جسدية. فالأشخاص الذين يشعرون بالوحدة وبأنهم معزولون اجتماعيًّا لديهم أيضًا معدلات أعلى من أمراض القلب والأوعية الدموية، وهم أكثر قابليةً لإدمان الكحول والانتحار، ولديهم كذلك معدلات أعلى من الأمراض الجسدية المتعلقة بالضغوط والإجهاد وتَراجُع الوظائف المناعية، وسيصبحون في وقت لاحق من حياتهم، أكثر عرضةً لخطر الاصابة بالخرف، وفق الدراسة.
في تصريحات خاصة لـ”للعلم”، يقول “ماثيو والكر”، وهو أحد أساتذة جامعة كاليفورنيا في علمي النفس والأعصاب، وباحث رئيسي للدراسة: “البشر اجتماعيون بطبعهم، ومع ذلك فإن الحرمان من النوم يمكن أن يحولهم إلى أشخاص منعزلين اجتماعيًّا”.
ويضيف: “كلما قلت نسبة النوم التي تحصل عليها، قلّت رغبتك في التفاعل اجتماعيًّا. في المقابل، يدرك الآخرون أنك منفر أكثر اجتماعيًّا، مما يزيد من تأثير العزلة الاجتماعية الخطيرة الناجمة عن فقدان النوم”، مشددًا على أنه “قد تكون هذه الحلقة المفرغة عاملًا مهمًّا، مُسهمًا في واحدة من أزمات الصحة العامة التي تتمثل في الوحدة”.
وتشير دراسات استقصائية أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن غالبية الأمريكيين تقريبًا يشعرون بالوحدة أو أنهم لا يستبعدون وقوعهم في هذا الشعور. علاوة على ذلك، وُجد أن الشعور بالوحدة يزيد من خطر الوفاة بنسبة تزيد عن 45 في المئة، وهو ضِعف خطر الوفاة المرتبط بالسمنة، وفق والكر.
يصف والكر الشعور بالوحدة بأنه “شعور قاتل”، يزيد بشكل كبير من مخاطر الإصابة بأشكال عديدة من الأمراض العقلية، بما في ذلك الاكتئاب والشيزوفرينيا والقلق والانتحار.
ويشدد على أن هؤلاء الأفراد هم الأكثر عرضةً للإصابة بالخرف، ويصابون بذلك قبل الأوان. لذلك، فإن اكتشاف أية قوى أو عوامل تزيد و/ أو تديم الشعور بالوحدة هي عوامل ذات أهمية كبيرة على المستويين الصحي والاجتماعي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لم يُخلق ليعيش بمعزل عن غيره، كما يؤدي السلوك الاجتماعي دورًا أساسيًّا في رفاهيته.
خاصية التعزيز الذاتي
الأهم من ذلك، أن الشعور بالوحدة لديه خاصية التعزيز الذاتي، فإذا أدرك الأخرون أن شخصًا ما يفضل الوحدة والانعزال، فغالبًا ما سيتجنبون التفاعل معه، ومن ثم الاقتراب منه، ما سينتج عنه دخوله في دورة معقدة من العزلة الاجتماعية.
لذلك ينطوي المفهوم الواسع للنمط الظاهري للشخص غير الاجتماعي على صفات عديدة، بما في ذلك الابتعاد والانسحاب بعيدًا عن الآخرين، والمشاعر غير الموضوعية، وأن يتجنبك البعض الآخر اجتماعيًّا.
“قد لا يكون من قبيل المصادفة أن العقود القليلة الماضية شهدت زيادة ملحوظة في الشعور بالوحدة ونقصًا هائلًا في مدة النوم”، كما تقول لـ”للعلم” الباحثة الرئيسية في الدراسة “إيتي بن سايمون”، زميل ما بعد الدكتوراة في مركز ووكر لعلوم النوم البشري في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
تضيف بن سايمون: “من دون نومٍ كافٍ، سنتحول بعيدًا عن كوننا أشخاصًا اجتماعيين، وستنشب الوحدة في وقت آخر قريب”.
بالنسبة للبشر، فإن الشعور بالضيق الداخلي والإبلاغ عن الشعور بالوحدة يرتبط بنوعية نوم سيئة، أو بالتحديد كفاءة نوم أقل، في حين ترتبط الفاعلية الاجتماعية بجودة نومٍ عالية.
وتبقى هناك حاجة إلى تبيان ما إذا كان هذا التأثير ثنائيَّ الاتجاه، مثل أن يتصور الآخرون في المجتمع على نحو متبادل الأفراد المحرومين من النوم كأشخاص يشعرون بالوحدة، وبميل أقل تجاههم من حيث الرغبة في التفاعل معهم.
ثلاثة طرق للقياس
لقياس الآثار الاجتماعية للنوم السيئ، أجرى “ووكر” و”بن سايمون” سلسلة من التجارب المعقدة باستخدام أدوات مثل تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، وقياسات الشعور بالوحدة المعيارية، وتوظيف المحاكاة المسجلة على شريط فيديو، وإجراء المسوحات عبر السوق الإلكتروني لإحدى الشركات.
في البداية، اختبر الباحثون الاستجابات الاجتماعية والعصبية لـ18 من صغار البالغين الأصحاء بعد نوم ليلة عادية وليلة أخرى بلا نوم. شاهد المشاركون مقاطع فيديو لأشخاص لديهم تعابير محايدة يسيرون باتجاههم، وعندما اقترب الشخص الذي يظهر على الفيديو أكثر من اللازم، تم الضغط على زر لإيقاف الفيديو، الذي سجّل مدى قربه من حصول الشخص عليه.
وكما كان متوقعًا، فإن المشاركين المحرومين من النوم أبقوا الشخص المقترب على مسافة أكبر بكثير -بين 18 و60 في المئة مسافة أبعد- عما كانوا عليه عندما كانوا في وضع الاستقرار well-rested.
كما جرى فحص أدمغتهم في أثناء مشاهدتهم لمقاطع الفيديو الخاصة بالأفراد الذين يقتربون منهم. وبالتحليل، وجد الباحثون أن فحوصات الدماغ للأشخاص المحرومين من النوم في أثناء مشاهدتهم لمقاطع فيديو لغرباء يسيرون نحوهم، أظهرت نشاطًا يدل على تنافر اجتماعي قوي داخل الشبكات العصبية التي يتم تنشيطها عادةً عندما يشعر البشر بأن مساحتهم الشخصية يتم غزوها. كما قلل فقدان النوم من النشاط في مناطق الدماغ التي تشجع عادةً على المشاركة الاجتماعية.
ففي الأدمغة المحرومة من النوم، وجد الباحثون نشاطًا مرتفعًا في دائرة عصبية يتم تنشيطها عندما يدرك المخ التهديدات البشرية المحتملة القادمة. في المقابل، جرى إغلاق دائرة أخرى من الدماغ تشجع على التفاعل الاجتماعي، بسبب الحرمان من النوم، مما أدى إلى تفاقم المشكلة.
وفيما يتعلق بالجزء الخاص من الدراسة باستخدام الإنترنت، شاهد أكثر من 1000 مراقب تم اختيارهم عبر إحدى الأسواق الإلكترونية أشرطة فيديو لمشاركين في الدراسة يناقشون الآراء والأنشطة الشائعة (المألوفة). لم يكن المراقبون يعلمون أن هؤلاء الأشخاص قد حُرموا من النوم، وصنفوا كل واحد منهم على أساس ظهوره وحيدًا، وما إذا كانوا يرغبون في التفاعل معه اجتماعيًّا.مرارًا وتكرارًا، صنفوا المشاركين في الدراسة في الحالات التي حُرمت من النوم باعتبارها “حالة تبدو وحيدة، كما تبدو أقل رغبة اجتماعيًّا”.
ولاختبار ما إذا كان الاغتراب الناجم عن فقدان النوم مُعديًا، طلب الباحثون من المراقبين تقييم مستويات الشعور بالوحدة بعد مشاهدة مقاطع فيديو المشاركين في الدراسة. لقد فوجئوا بأنهم وجدوا أن مراقبين كانوا أصحاء شعروا بأنهم مغتربون بعد مشاهدة مقطع واحد فقط من 60 ثانية لشخص وحيد، إذ تَولَّد لديهم الميل ذاته.
يقول “والكر” إنه لأول مرة، نثبت بشكل شامل أن قلة النوم من أسباب الشعور بالوحدة؛ إذ استطعنا -من خلال تحليل شمل أكثر من 1350 مشاركًا- أن نميز هذا التأثير بشكل منهجي عبر مستويات متعددة: سلوكية ودماغية ومجتمعية، مضيفًا أنهم نجحوا في تحديد أربع نتائج جديدة:
1. يؤدي فقدان النوم (سواء كان الحرمان التام أو حتى التخفيضات المتواضعة من ليلة إلى ليلة) إلى تحول الأفراد إلى أن يصبحوا أكثر ميلًا إلى الانعزال، مما يجبرهم على وضع مسافة أكبر بينهم وبين الآخرين.
2. إن الارتباطات العصبية الأساسية لهذا التأثير الناجم عن فقدان النوم تنطوي على فرط الحساسية في مناطق الدماغ التي تدفع الآخرين إلى الاستيقاظ، وضعف في المناطق التي تشجعهم عادةً على التفاعل الاجتماعي وفهم نوايا الآخرين.
3 – على مستوى العلاقات الاجتماعية الحقيقية، فإن أشخاصًا مستقلين لا يعرفون شيئًا عن السياق التجريبي للدراسة، قيَّموا المشاركين المحرومين بأنهم يُظهرون ميلًا إلى الوحدة والانعزال، مقارنةً بأولئك الذين نالوا قسطًا كافيًا من النوم. وعلاوة على ذلك، لم يرغب هؤلاء الأشخاص المراقبون بشكل قاطع في الانخراط اجتماعيًّا مع الأفراد المحرومين من النوم أو في التعاون معهم، مما يدل على أن فقدان النوم بمنزلة طارد اجتماعي قوي.
4. أخيرًا ، لقد حققنا اكتشافًا أساسيًّا أن للحرمان من النوم أثرًا مُعديًا وقابلًا للانتقال إلى المجتمع، بحيث إن الأشخاص الذين يتعاملون مع شخص حُرم من النوم، حتى في أثناء تجربة قصيرة مدتها حوالي 60 ثانية، يشعرون بالوحدة نفسها، نتيجة لذلك: “الشعور بالوحدة الناجمة عن قلة النوم شعور مُعدٍ”.
مقدار النوم
وأخيرًا، نظر الباحثون إلى ما إذا كانت ليلة واحدة فقط من النوم الجيد أو السيئ يمكن أن تؤثر على شعور المرء بالوحدة في اليوم التالي.كان تتبُّع حالة كل شخص من الشعور بالوحدة من خلال المسح الموحد الذي قدم أسئلة من قبيل: “كم عدد المرات التى شعرت فيها بأنك معزولٌ عن الآخرين”، و”هل تشعر بأنك ليس لديك أي شخص لإجراء محادثات معه؟”.
وجد الباحثون أن مقدار النوم الذي يحصل عليه الشخص من ليلة إلى أخرى قد تنبأ على وجه الدقة بكيفيه شعوره هو بالوحدة وكونه منعزلًا عن الآخرين من يومٍ إلى الآخر الذي يليه.
“كل هذا يبشر بالخير إذا كنت تنام الساعات السبع أو التسع الضرورية في الليلة، ولكن الأمر ليس جيدًا إذا كنت تستمر في قضاء عدد ساعات قليلة من النوم”، كما يقول “والكر”، مضيفًا أنه: “من الناحية الإيجابية، ليلة واحدة فقط من النوم الجيد تجعلك تشعر بأنك أكثر انفتاحًا وثقة اجتماعيًّا، علاوة على ذلك، ستجذب الآخرين إليك”.
وتوضح “بن سايمون”: لقد شهدنا في الواقع تأثيرات اجتماعية مرتبطة بكلٍّ منهما، أدت ليلة واحدة من سوء نوعية النوم إلى الشعور بمزيد من الشعور بالوحدة في اليوم التالي، وإلى انخفاض في مستويات الاهتمام الاجتماعي بالآخرين”.
حملات عن سلوكيات النوم
في الختام، ينصح “والكر” الأشخاص الذين يضطرون إلى قضاء الكثير من الوقت في العمل ليلًا، ما يجعل صحتهم في خطر، إعطاء الأولوية للنوم بدرجة مماثلة لتلك التي نحتفظ بها لحياتنا المهنية، مشددًا على أن كل الأمراض الرئيسية التي تقتلنا في العالم المتقدم -من ألزهايمر إلى السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية، إلى مرضي السكري والسمنة- لها صلات كبيرة بعدم كفاية النوم.
ويكرر: الوحدة -قاتل آخر- يجب أن يضاف الآن إلى تلك القائمة. ويشدد على أننا “نحن البشر لم نصمم لنعيش وحدنا، فالنوم هو بمنزلة الغراء -من الناحية البيولوجية والنفسية- الذي يمزج بيننا كأفراد”.
ويختتم كلامه بقوله: من المفارقات أن النوم يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه شيء يبعدنا عن النشاط الاجتماعي، يبدو العكس الآن صحيحًا، يعيدنا النوم مع دائرتنا الاجتماعية، مع أصدقائنا وزملائنا وشركائنا وحتى مع الغرباء.
وعن أهمية نتائج الدراسة، يقول: تثبت هذه الاكتشافات أن حالة فقدان النوم تعمل كمؤثر اجتماعي، يدفعنا إلى العزلة، وأن الأثر الاجتماعي للحرمان من النوم يمكن انتقاله بين أفراد المجتمع الواحد. وهذا يعني أن الشعور بالوحدة الناجم عن قلة النوم يبدو معديًا.
وبناءً على ذلك، تثير نتائجنا مسألة وجود صلة بين الانسحاب الاجتماعي و/ أو السلوك الاجتماعي الملحوظ في كل اضطراب نفسي كبير وتعطل النوم المرضي الذي تم الإبلاغ عنه في جميع هذه الحالات، مشددًا على أنه إذا وضعنا تركيزًا كبيرًا على تصحيح النوم في هذه الظروف، فقد يمكننا تحسين أعراض ضعف المجتمع وهشاشته.
ويضيف: بشكل أعم، تشير نتائجنا إلى وجود علاقة محتملة بين المعدل المتزايد بسرعة من الشعور بالوحدة داخل المجتمعات، ووباء النوم الملازم له في المجتمعات نفسها.
ويشدد على أن تجربة الشعور بالوحدة تجعل الأفراد أكثر عرضةً لسوء الصحة والوفاة المبكرة. ولذلك، فإن حملات الصحة العامة التي تركز على سلوكيات النوم (والتي لم تقم أي دولة في العالم بها بعد) قد تقود السهم المصاحب للوحدة المتصاعدة إلى تراجع، مما يؤدي إلى خفض تكاليف الأمراض والوفيات (الشخصية والمالية).