أخبارثقافية
أخر الأخبار

الذّاكرة العراقيَّة.. مَنْ جفّف أنهارها؟

كتب صلاح حسن السيلاوي … أين يذهب المنجز الثقافي العراقي المتدفق يومياً، على مستوى الكتابة والصورة الفوتوغرافية والفيديوية؟

هل يجد القارئ كل ما كتبه العراقيون، من شعر وسرد وفكر ودراسات وبحوث أكاديمية؟ متى تفكر الدولة عبر مؤسساتها المعنية، ومثيلاتها في المجتمع المدني بتحصين ذاكرة المجتمع الثقافية من الضياع؟ أتساءل عن ذاكرة الإذاعة والتلفزيون العراقي بوصفه أول تلفزيون عربي؟ ماذا نجد منه فعليا؟ وما الذي نملكه من أرشيف الصحافة العراقيَّة منذ تأسيسها؟ لا ينشغل كثير من المعنيين، مسؤولين ومبدعين بفكرة توثيق العمل الثقافي والفني في البلاد، هنالك سعي فردي لذلك، ولكن السعي لتأسيس هذه الفكرة عبر مؤسسات معنية، لا يجد برأيي صدى واضحاً للتطبيق.

أتسأءل عما نستطيع الوصول إليه، بسهولة من أرشيف الأدب والفن العراقي، هل نملك رصيداً منه يناسب الفعل الثقافي والفني المتدفق منذ قرون عديدة؟

أيمكن لما يتوفر منه أن يكون معينا للباحث في هذا الشأن؟

لماذا لا تنتبه الدولة لأهمية هذا الموضوع؟

ماذا عن أرشيف السينما والدراما في الماضي والحاضر؟

عن أجوبة لهذه التساؤلات وغيرها، سأبحث مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع.

مسؤولية المؤسسات

الشاعر مهدي النهيري، تحدث في إجابته عما يؤلمه، من قلّةِ التوثيقِ الفيديويّ أو الصوتيِّ للمنجز العراقي، مقارنة بما لدى الأرشيفِ المصريّ من كنوز مثلا.

وقد عزا النهيري القصورَ في هذا الجانب، للظروفِ السياسيةِ من حروب وصراعات وذكر على ذلك القصور أمثلة، منها عدم وجود توثيق فديوي للشخصيات الثقافيَّة التي تركت أثرا بيّناً في البلاد، ثم حمّلَ التلفزيون العراقيّ، والإذاعاتِ الرسميةِ أولاً، والاتحاداتِ الثقافية، ومكاتبِ إعلامِ الجامعات، مسؤولية التوثيق للفعل الثقافي.

وقال النهيري مبينا: مرّةً – قبلَ سنواتٍ – كتبتُ منشورًا ألِمْتُ فيهِ لما أراهُ من قلّةِ التوثيقِ الفيديويِّ أو الصوتيِّ، لمنتجاتِ مفكّري العراقِ ومثقفيهِ وأدبائهِ وشعرائهِ وأكاديمييهِ وباحثيهِ، وفنّانيهِ، وكنتُ قد قارنتُ بينَ قلةِ هذا النتاجِ العراقيِّ المسجَّلِ، وبينَ كثرةِ ما لدى الأرشيفِ المصريِّ من كنوزٍ تلفزيونيةٍ وإذاعيةٍ لعشراتِ المبدعينَ المصريينَ، محفوظةً وموثقةً.

وكنتُ قد عزوتُ هذا القصورَ في عدمِ الاهتمامِ بالتوثيقِ، للظروفِ السياسيةِ التي مرَّ بها العراقُ في فترةِ البعثِ، لكنَّ هذا العزوَ غيرُ شاملٍ لفترة الخمسينياتِ والستينياتِ والسبعينيات، التي كانتِ الثقافةُ العراقيَّةُ فيها في أوجِ عطائِها وتأجُّجِها.

وأذكرُ مرةً أن الشاعرَ العراقيَّ المرحومَ سامي مهدي نشرَ مقطعًا فيديويًّا لهُ وكانَ في مهرجانٍ شعريٍّ في تونسَ – على ما أذكرُ – فكتبتُ لهُ أنَّ هذا المقطعَ هوَ الوحيدُ المنشورُ لهُ في يوتيوب، فقالَ لي نعمْ هوَ الوحيد.

وأضاف بقوله: اليومَ تذكَّرتُ هذا الأمر عندما شاهدتُ محاضرةً قيّمةً للأكاديميِّ العراقيِّ الكبيرِ الدكتورِ عدنان العواديّ، وعندَما أردتُ الاستزادةَ من مقاطعِ الرجُلِ المصوَّرةِ، لم أجدْ منها شيئاً، على أنّي أذكرُ أني رأيتُ لهُ مرَّةً تسجيلاً تلفزيونياً في مناقشةِ الدكتوراه للصديق الشاعر حسين القاصد، ولا أقولُ إن هذينِ التسجيلينِ هما الوحيدانِ للدكتورِ العواديِّ، ولكنْ أقولُ إن الرجلَ على قيدِ الحياةِ ويعيشُ بينَ ظهرانينا، هوَ وثلَّةٌ عظيمةٌ من المبدعينَ العراقيينَ، لكنَّهم غيرُ محظوظينَ أو لأقُلْ لكنَّنا غيرُ محظوظينَ – ونحنُ في هذهِ الفسحةِ من الحريةِ والتقنيةِ – بأنْ نرى لكلٍّ منهم أرشيفاً ثقافياً مسجّلاً تلفزيونياً، يدلُّ المثقفَ العربيَّ على مكانتِهم الفكريةِ وأثرِهم في جامعاتهمِ ومجتمعهمِ وثقافةِ

بلدانِهم.

إن هذا التقصيرَ – إن حسبتُ رَدْمَ هُوَّتِهِ واجبًا أخلاقيًّا وثقافيًّا – فهو واجبٌ ملقىً على كاهلِ التلفزيونِ الرسميِّ العراقيِّ والإذاعاتِ الرسميةِ أولاً، وعلى كاهلِ الاتحاداتِ الثقافيةِ العراقيةِ ، أدباءَ وفنانينَ ومسرحيينَ وأكاديميينَ، وملقىً على كاهلِ مكاتبِ إعلامِ الجامعاتِ العراقيةِ ، وملقىً على كاهلِ البيوتِ والمنتدياتِ الثقافيةِ، فإنْ لم تبادرْ هذهِ المنصّاتُ لمهمةِ التسجيلِ والتوثيقِ لتلكَ المحاضراتِ والندواتِ والنقاشاتِ والحواراتِ الفكريةِ والمعرفيةِ، فمن سيقومُ بذلكَ؟ ولا أدري ما الذي يمنعُ من ذلك، وهوَ عملٌ فيهِ خيرٌ كثيرٌ لهذا البلدِ والمجتمعِ والفكرِ والدينِ والأجيالِ

القادمة؟

ضحيَّة التناحرات الايديولوجية

الناقد زهير الجبوري، يجد أن أهم ما تتميز به الشعوب الحيّة، أنها تمسك بتاريخها الثقافي والفني بوصفه الهوية الثقافية، التي لها جذر في تأصيل العمق التاريخي، وهذا ما يذكره العالم عن أرض الرافدين بوصفها أقدم وأعرق بلد فيه حضارات، مشيرا إلى أنّ هذه الحضارات عرفت عن طريق الأثر والأبداع الذي يلمسه الجميع من كتابات وفنون مختلفة، لذا يجزم الجبوري بأنّ العراق واحد من أهم بلدان الشرق الأوسط في تميزه الأبداعي، مهما كانت ويلات الحروب، فهو بلد ولاّد ويتمتع أبناؤه بموهبة الإبداع ولعل التاريخ المعاصر والحديث يدرك ذلك.

وأضاف قائلا: أرشيفنا الثقافي مليء بالإبداع وفيه الكثير من الأسماء التي قدمت للبلد الشيء الكثير، غير انَّ السلطات وتقلبها كان له الأثر السلبي في جعل محسوبية الأشياء تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر عليها، بمعنى اننا عشنا فترات متعاقبة في أزمان تختلف فيها طبيعة واداء الفن التلفازي والأذاعي والسينمائي منذ العقد الخمسيني والستيني والسبعيني والثمانيني، ليومنا هذا، ففي كل مرحلة كان للفن شكل خاص لدى المجتمع، ربما استثني الفن التشكيلي بوصفه فن عابر لحدود البلد وله مساحة أكبر من باقي الفنون.. فحين نقول الدولة التي لا بد لها من حفظ ارشيف بلدها، نستدرك ونشير (من هي الدولة تحديدا) الدولة ذات الفكر اليساري، أم البعثي أم الاسلامي..؟

وبالتالي نقع في تمايز إشكالي ما بين الفكر التقدمي والقومي والعرفاني، هنا الفن وقع ضحية هذه الأفكار والاتجاهات، وذهب الكثير من الأعمال ضحية التناحرات الآيديولوجية، وليس من صالح جهة معينة ابقاء بعض الأعمال الفنية القديمة مهما كانت جودتها وتأثيرها على المجتمع.

ارشيفنا في التلفزيون، ارشيف له مكانة فنية عالية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الأعمال التي قدمت قياسا بدول أخرى مجاورة (منها الخليج) وهنا يأتي دور وزارة الثقافة في تخصيص لجنة من أصحاب الخبرات متابعة الأمر وحفظها بشكل يناسب بقاءها، أو جعلها في مطبوع يدرس دراسة مستفيضة وعالية الجودة ليتسنى للأجيال القادمة درستها او الاطلاع عليها.

إضافة إلى ذلك، أن فن الدراما في العراق منذ عقود فيه متعة كبيرة تلامس مشاعر الإنسان بصدق الاداء وطريقة طرحه، في حين الدولة المتخومة بالميزانيات الانفجارية لا يهمها الأمر، ولا تشغل بالها في رفد الفن، مهما كانت الطاقات والمواهب الموجودة في العراق، ما أخذ على عاتق أهل الفن والناس عامة الانتقاد، إذ كيف لفن يقدم تحت موسى الحلاق اوأفلام مثل الجابي، أو يأتي كبار فناني العرب لأحياء الفن في العراق منذ ما يقارب الـ (100) سنة، والدولة غافية عن ذلك.. أعتقد الأمر يقع على عاتق الدولة في لَمْ أرشيف فنوننا والحفاظ عليها مهما كانت قناعات السلطات التي ستذهب ويبقى الفن بفروعه كافة.

محو الماضي الثقافي

القاص ميثم الخزرجي، يرى أن المدوّنة الثقافية العراقية، عامرة بمحتواها الجمالي، وقد انتخبت مؤنها بوصفها معياراً قيمياً ناصعاً، وأن فما وصل لنا من متون أدبيَّة وأناشيد، رُتلت في معابد الآلهة مصحوبة بالعزف على الآلات الموسيقية، ما هو إلا دليلٌ على الرؤى المتقدمة التي تعنى بالفرد واهتمامه بجوانب روحية كونية تمرّن النفس وتطرّي الذائقة، وهنا أشار الخزرجي إلى أن الوجه المدني الأكثر تحضراً يأتي عبر حيازة جوانب فنية، لها أثرها الدال وكنهها المؤثر.

ثم أضاف موضحا: بقي لنا أن نتوقف عند الكيفية التي وصلت بها إلينا هذه الذخيرة، وعن ماهية إيفاء غرضها في الوقت الحالي، وهل أن التاريخ الجمالي العراقي الحديث ما زال محتفظاً بأصالته الفنية؟

واقعاً، إن الإطاحة والتنكيل بتاريخ بلد معين يبدأ بمحورين أساسيين، الأول هو التعمد بمحو ماضيه الثقافي وإبادة أرشيفه، وما يترتب على هذا الأرشيف من ضرورات لها تأسيسها، فالهوية الثقافيَّة هي ريادة وتأصيل لأنساق اجتماعية وسياسية لها مضامينها الجدلية، بكل ما تتخلله هذه المضامين من حمولة معرفية، ليكون النص الأدبي والأغنية والمونولوج والمسرح والدراما والسينما، بل حتى أغاني الأطفال والبرامج السيَّرية تؤرخ لحقبة معينة، رَسمت ملامحها هذه الفنون لتعمق مسيرتها عبر مشوارها الجمالي، والشواهد كثيرة على ذلك ، وفي حال لو أزلنا هذه الأنشطة البشرية الخلاقة انتُزعت كينونة أمة بأسرها وبان مصيرها العدم، أما المحور الثاني هو تغيير معمارية المدن ونظامها العمراني بالتالي ستكون تنشئة الفرد مغايرة من حيث الأفكار المستحدثة ليبنى على ذلك وعي جديد إمعاناً للترسيخ الذهني والبصري الذي يفرضه واقعه.

وقال الخزرجي أيضا: أجد أن بعد الهجمة البربرية التي لحقت بالعراق والخراب الذي تعرضت له المؤسسات الثقافيَّة والفنيّة، الذي أدى إلى سحق الكثير من الوثائق المحفوظة للتاريخ الجمالي، على قلة هذه الوثائق وشحة تدوينها ليسفر عن ذلك تصفير السجل الفني العراقي، فلم يعد للفنان أو الأديب تأريخ ينعم به غير ما ادّخرته الذاكرة الجمعية، وهنا إعلان سافر عن موت صاحب المشروع على الرغم من نتاجه المثمر، فلكم من أديب رحل من دون أن يفي الأعلام حقة، بل لم توثق له حلقة تسجيلية واحدة، ولكم من مطرب وملحن لم يشر له سوى ببعض من الحوارات العابرة.

لذا يجب أن ننوه إلى الدور المناط على عاتق وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية، وهمّتها في إضاءة روادها وهذا يحتاج إلى مشغل تقني جاد في كيفية التعاطي مع المشاريع الفنية والأدبية وحفظ محتواها الجمالي بوصفها ثروة وطنية، غير خاضعة لمرحلة معينة، وينسحب هذا الدور على كثير من القنوات الممسكة بالمشهد الإعلامي والتي يكون حضورها صاخباً بأن تخصص مساحة صريحة لتوثيق حياة الفنان وأثره الجمالي، عبر حلقاتٍ تنجز لتكون مرجعاً مهماً، تسهم بشكل أو بآخر لضمان حقوق هذه الفئة، ولعلي أجد أن من الضروري أن تكون لوزارة الثقافة قناة مجهزة بأحدث المعدات التقنية لتثري الواقع الجمالي وتضيء محتواه وقد يكون الأوان التكنولوجي عاملاً كبيراً في رسم صورة واضحة للمشتغلين في هذا الحقل وإبراز قيمتهم الحقيقة عبر تعزيز حراكهم الثقافي والتقصي عن

جوهره.

دور المؤسسات الأدبيَّة

الشاعر الدكتور وسام العبيدي، لا يرى التقصير منحصرا بمؤسسات الدولة الثقافيَّة أو الأدبيَّة فيما يخص ضعف الجانب التوثيقي لديها، بل يلقي بالمسؤولية على المؤسسات الأدبية والثقافية من اتحادات أدباء وكتاب أيضا، أو غيرها من النقابات التي يقع عليها اللوم فيما تقصر عامدة، أو غير عامدة في هذا الجانب، على الرغم من رعايتها كثيراً من الأنشطة والفعاليات الثقافيّة والفنيّة والأدبية، وفي الوقت نفسه قد تذهب مثل هذه النشاطات أدراج النسيان؛ لكونها لم توثق ولم تُحفظ موادّها؛ لتبقى بعد ذلك رهن الحاجة إليها في أي وقت، على حد وصفه.

وأضاف العبيدي موضحا: تزداد الحاجة للأرشفة، بازدياد التوجه العالمي إلى حفظ البيانات والمواد الفلمية، وغيرها من وسائل حفظ وتوثيق.

وقد يكون الجهل بقيمة التوثيق الرقمي للمحتوى الثقافي الهادف، سببا يقف وراء إهمال هذا الجانب، فضلا عن ضعف المتابعة الحكومية لتنشيطه؛ لكون المؤسسات الثقافية الرسمية للدولة لا تُعنى بهذا الموضوع؛ لكون القائمين عليها يفتقرون لرؤية بعيدة المدى لأهمية الأرشفة بوصفها جزءا لا يتجزأ من الواجب الذي تقوم المؤسسات به للأجيال اللاحقة، بما يعكس أثره السلبي في إضاعة ما يستحق توثيقه للأجيال، للإفادة منه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى