كتب إبراهيم العبادي.. كان لافتاً أن تتوقف الحرب في جنوب لبنان لتشتعل في شمال سوريا بعد يومين فقط من وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي.
انتقال الحرب سريعاً إلى مدينة حلب السورية، بعد سنوات من إبعاد قوات المعارضة المدعومة تركياً ودولياً وحصر وجودها في مدينة إدلب وريفها، أعاد إلى الأذهان مشهد سقوط مدينة الموصل في حزيران عام 2014 وما تبع ذلك من مضاعفات أمنية وسياسية. جاءت الصور تتحدث عن انهيار مفاجئ وسريع للقوات المدافعة عن ريفي حلب وإدلب، وتقدم مذهل للقوات المهاجمة، مع عجز كبير عن إيقاف هذا التقدم، رغم وجود سلاح الجو الروسي وقوات برية هجينة تضم القوات السورية الحكومية وقوات حليفة تنتمي إلى محور المقاومة.استراتيجياً، كشفت أحداث الخرق العسكري الكبير على جبهة حلب عن تخلخل واضح في معنويات وقدرات القوات المدافعة، وأثارت أسئلة عديدة حول أسباب هذا التراجع السريع. أول الأسئلة كان عن فشل الدفاعات والقوات الموجودة في الالتحام المباشر والقتال الدفاعي، كما حصل في عامي 2011 و2016، والذي تُوّج باستعادة المدينة وريفها الغربي وطرقها الدول
السؤال الثاني كان عن أدوار الدول والقوى غير السورية في هذا المشهد الدرامي. لماذا لم تتدخل القوات الجوية الروسية لإيقاف تقدم قوات المعارضة السورية، واكتفت بمهاجمة الخطوط الخلفية ومواقع الإمداد التي استفادت منها “هيئة تحرير الشام” بزعامة القاعدي/ الداعشي السابق أبو محمد الجولاني؟
السؤال الثالث: ما هو الدور التركي في جميع هذه التطورات؟ ولماذا بدا الأتراك “متفهمين جداً” لخطوة المعارضة السورية؟
السؤال الرابع يتعلق بدلالة توقيت احتلال حلب وريفها مع المدن والبلدات الأخرى، خصوصاً بعدما تعرض محور المقاومة لنكسات وضربات خلال الأشهر المنصرمة. السؤال الخامس: كيف ستنعكس هذه التطورات على الأمن والسلام في المنطقة؟ وكيف ستكون ارتداداتها على محور المقاومة بأسره؟ لن تكون القراءة دقيقة ما لم يتم ربط الأحداث العسكرية في الشمال السوري بما جرى ويجري في المنطقة. عندما تحدث رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو عن إعادة بناء الشرق الأوسط بعد السابع من تشرين الأول 2023، كان واضحاً أن الخطط تستهدف تغيير سياسة النظام السوري والضغط عليه ليصبح منسجماً مع المتغيرات الناتجة عن حرب غزة- لبنان. سوريا، التي تُعد مفصلاً ثابتاً في محور المقاومة، والتي صمد نظامها السياسي بفعل دعم عسكري إيراني- روسي- فصائلي، لم تستطع استعادة السيطرة الكاملة على البلاد. كما لم تبن قوة كافية لتستغني عن الدعم الإيراني والجوي الروسي. بقيت خطوط التماس مع قوات المعارضة جامدة. منذ ذلك الوقت، لم يحقق النظام مكاسب استراتيجية تُعزّز موقفه، وبقيت التطورات الداخلية والخارجية مرهونة بعلاقات حليفيه الرئيسيين، إيران وروسيا. كانت محاولات تركيا لتسوية الأوضاع في الشمال السوري تصطدم برفض دمشق واشتراطها انسحاباً تركياً شاملاً من المناطق المحتلة وتخليها عن دعم المعارضة. عندما حاول الرئيس أردوغان مراراً لقاء الرئيس الأسد بوساطة روسية، واجه رفضاً سورياً فُسّر بأنه نتيجة لضغط إيراني خشيةً من خسارة طهران لنفوذها القوي.
جاءت المرحلة الثانية من المشروع للتركيز على قطع خطوط الإمداد بين إيران ولبنان عبر سوريا. مع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا وانتظارها عودة ترامب إلى البيت الأبيض لتخفيف تداعيات هذه الحرب، بدا واضحاً أن موسكو متفاهمة مع إسرائيل بشأن سوريا، كما تشير المعطيات الميدانية. الأتراك، من جهتهم، يحاولون استثمار الفرصة الراهنة لتعزيز وجودهم في سوريا من بوابة الحل الشامل الذي يدعون إليه وفقاً لقرارات مجلس الأمن. اللحظة السورية الراهنة ليست لحظة قوة، باتت سوريا مكشوفة أمام مشروع إسرائيلي-أمريكي-تركي يهدف إلى فك ارتباطها بمحور المقاومة، مع قبول عربي وتفهم روسي. ضربة حلب هي مقدمة لمشروع سياسي-عسكري جديد يسعى لتفكيك محور المقاومة كلياً. إذا لم يتماسك الجيش السوري وحلفاؤه، فقد يصل المشروع إلى دمشق، مما يضع النظام أمام خيارين: إما استدارة كبيرة في سياسته أو المخاطرة بخسارة السلطة.