كتب أ.د. طلال ناظم الزهيري: إنَّ ملاحظة تفوّق الأطفال العراقيين في مسابقات الحساب الذهني بين الدول ذات الأنظمة التعليميَّة المتقدمة، قد تبدو محيرة للوهلة الأولى، ومع ذلك فإنَّ هذا التفوق ليس منفصلاً عن حقيقة حصول العراق باستمرار على درجات عالية في معدل الذكاء، متفوقاً على العديد من نظرائه العرب والأجانب.
وتشير التقارير إلى أنَّ العراق يتصدر العالم العربي بمعدل ذكاء يبلغ 89، وهو متوسط عالمي جدير بالثناء. لكن على الرغم من امتلاك العراق مثل هذه المواهب، فإنه لا يزال بعيداً عن بناء جيل من العلماء في التخصصات المهمة، مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها.
ويمكن أن يُعزى هذا الأمر إلى عوامل مختلفة بما في ذلك النظام التعليمي السائد في العراق، الذي يدعم عمليات التلقين على حساب عمليات الاستنتاج والتفكير النقدي. كذلك تؤدي آلية القبول المركزي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، دوراً سلبياً في تراجع فرص ظهور جيل من العلماء، أضف إلى ذلك اتجاهات التوظيف والتأثيرات الأسرية التي تتحكم في خيارات الأبناء من خلال التثقيف المبكر على تخصصات بعينها، بصرف النظر عن المجال الذي يبرع فيه الأبناء.
على سبيل المثال نظام القبول المركزي المعتمد لدينا والذي يقوم في المقام الأول على المعدلات العامة للطلاب، بدلاً من البراعة في موضوع معين، يقوض عملية تنمية العقول العلمية، إذ يمكن إعطاء الأولوية في القبول في تخصص علمي مثل الفيزياء، على سبيل المثال للطالب الحاصل على معدل عام 85 ولكنه حصل على درجة 70 في مادة الفيزياء، على الطالب الذي حصل على معدل عام 75، ولكنه حقق العلامة الكاملة في تلك المادة، تؤدي هذه الآلية إلى إدامة دورة تظل فيها المواهب الاستثنائية غير معترف بها وغير مستغلة بالقدر الكافي.
علاوة على ذلك فإنَّ الضغوط المجتمعية غالباً ما تُملي على الأبناء التفضيلات المهنية مما يدفع الطلاب بعيداً عن المجالات التي لديهم شغف بها، نحو تلك التي تعد بآفاق عمل أفضل. وهذا النهج النفعي في التعليم إلى جانب التوقعات الأسرية، يقلل من احتمالية رعاية المواهب العلمية خارج المسارات المهنية التقليدية مثل الطب.
إنَّ فهم القدرات الفردية المختلفة أمر بالغ الأهمية، وبينما يتفوق البعض في قوة الذاكرة والحفظ عن ظهر قلب، يمتلك البعض الآخر قدرات تحليلية واستنتاجية متفوقة، وهي سمات غالباً ما تشير إلى النجاح العلمي المستقبلي في مختلف التخصصات.
ولمواجهة هذه التحديات يجب على صناع السياسات التعليمية اعتماد استراتيجيات تعطي الأولوية للاعتراف بالمواهب وتطويرها، ومن خلال الاعتراف بالقدرات المتنوعة واستيعابها. وتعزيز ثقافة التميز الأكاديمي ومواءمة الأولويات التعليمية مع أهداف التنمية الوطنية، يمكن للنظام التعليمي العراقي أن يلعب دوراً محورياً في تنشئة جيل من العلماء المستعدين لتقديم مساهمات وإنجازات ذات أهمية للمجتمع، إذا ما تم تنفيذ سلسلة من الإصلاحات على النظام التعليمي وكالآتي:
• مراجعة نظام القبول المركزي، من خلال تمكين الطلاب في اختيار التخصصات العلمية التي تتلاءم مع مواهبهم.
• الابتعاد عن التدريس القائم على الحفظ وتشجيع الطلاب على تحليل المعلومات وطرح الأسئلة، وتطوير عمليات التفكير المستقلة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال أساليب مثل التعلم القائم على الاستقصاء، حيث يبحث الطلاب بنشاط عن المشكلات لتقديم حلول منطقية لها.
• جعل التعليم جذاباً ومثيراً لفضول الطلاب ويمكن أن يشمل ذلك، دمج الأنشطة العملية والتعلم القائم على المشاريع، واستكشاف تطبيقات المعرفة في العالم الحقيقي.
• توفير الفرص للطلاب للتعمق أكثر في المواضيع التي تثير اهتمامهم، يمكن أن يشمل ذلك وضع مواد اختيارية وبرامج بحثية والوصول إلى الموجهين الذين يمكنهم توجيه مساعيهم الفكرية.
• تزويد الطلاب بالأدوات اللازمة لإجراء البحث بفعالية. من خلال تعليمهم كيفية العثور على مصادر موثوقة، وتحليل البيانات، وتشكيل الحجج المدعومة جيداً. يمكن للمكتبات ذات الموارد الرقمية القوية ودورات منهجية البحث، أن تكون أدوات قيمة.
• تشجيع العمل الجماعي ومهارات الاتصال، إذ غالباً ما يتعاون الباحثون ويتبادلون المعرفة، إذ يمكن أن توفر المشاريع الجماعية والمناقشات والعروض التقديمية، ممارسة في هذه المجالات.
• ضمان فهم قوي للمفاهيم الأساسية في الرياضيات والعلوم وفنون اللغة والتاريخ. تعتبر هذه المهارات الأساسية بمثابة لبنات بناء أساسية، لمزيد من الاستكشاف الأكاديمي.
• تطوير البرامج التي تعترف بالطلاب الموهوبين وتدعمهم، من خلال تنفيذ دورات تحديد المستوى المتقدمة وفرص الإرشاد، والمشاركة في المسابقات الأكاديمية.
• جذب الأساتذة المتحمسين والمهرة والاحتفاظ بهم من الذين يمكنهم إلهام الطلاب وتوجيههم إذ يعد توفير فرص التطوير المهني المستمر للتدريسيين أمراً بالغ الأهمية.
• إنشاء بيئة تعليمية تقدر الفضول والاستكشاف والمخاطرة الفكرية، وهذا يعني تعزيز مساحة آمنة يشعر فيها الطلاب بالراحة عند طرح الأسئلة وارتكاب الأخطاء.
ختاماً ومن خلال تنفيذ هذه الاستراتيجيات، يمكن للنظام التعليمي تمكين الطلاب ليصبحوا متعلمين مدى الحياة، ومفكرين نقديين، والجيل القادم من العلماء الذين سيدفعون حدود المعرفة والابتكار.